فارس حامد عبد الكريم ـ ماجستير في القانون نائب رئيس هيئة النزاهة سابقاً
لاشك في إن التصدي لمظاهر الفساد الإداري والمالي يتطلب نظاماً قانونياً جزائياً وإجرائياً يتوافق مع المصلحة العامة التي تقتضي مواجهة هذه الآفة الخطيرة التي تستنزف الأموال العامة لمصلحة فئة قليلة فضلت مصالحها على مصالح العامة فضلاً عن توافقه (النظام القانوني) مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وحفظ كرامته أثناء التحقيق والمحاكمة وحمايته من أية اتهامات باطلة ودعاوى كيدية فضلاً عن ضمان احترام هيبة الدولة وكرامة رجالها القائمين على إدارة الشؤون العامة من محاولة استخدام الاتهام والقضاء كوسيلة لإسقاط الخصوم.ومن الواضح ان الحماسة والغضب تجاه الفساد قد دفع العديد من أعضاء مجلس النواب والكتل السياسية الى المناداة بقوة إلى إلغاء المادة 136/ب أصول، إلا ان العاطفة شيء والواقع القانوني شيء آخر، ومفاد ذلك ان قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 النافذ هو من مخلفات رؤى النظام السابق الأمنية قد وضع وَسـُن لخدمة نظام دكتاتوري بإمتياز ليجعل من أمر اتهام وتوقيف المواطن أمراً ميسوراً وبموجب إجراءات تبدو قانونية من الناحية الشكلية دون الموضوعية، فضلا عن انه يمثل أفكار قانونية عتيقة لا تتلاءم مع الحقوق والحريات العامة التي جاء بها النظام الدستوري الجديد في العراق (1)، فالقانون النافذ لا يعرف إلا مرحلة الاتهام بمجرد الشكوى، وهذا هو المطبق فعلاً بغض النظر عن الجدل النظري، ولا تسبق ذلك مراحل أخرى سابقة نصت عليها قوانين الأصول في الدول الديمقراطية التي تعرف مثل هذا القانون بأنه قانون الحريات العامة بما يوفره من ضمانات قوية تمنع الاسترسال في الدعاوى الكيدية والاتهامات الباطلة والتراخي في الاجراءات، وبموجب تلك القوانين فان مجرد الشكوى لا تجعل من المواطن متهماً ولا تعطل حريته ولا تتخذ بشأنه إجراءات قضائية فورية وإنما يتولى المحققون زيارته إلى محل سكناه أو عمله والطلب إليه تحديد موعد للإجابة عن بعض الاستفسارات وتستمر هذه العملية حتى تتوفر لرجال التحقيق أدلة مادية أو شهادات موثوق بها ليتم استدعائه لكن ليس بصفة متهم وإنما بصفة مشتبه به، ويستثنى مما تقدم حالة الجريمة المشهودة، مع العلم ان قانون أصول المحاكمات الفرنسي الجديد لسنة 2000 قد أضاف مرحلة سابقة على الاشتباه تأكيدا على احترام حرية وسمعة المواطن الفرنسي بعد أصبح مصلح المشتبه به محل شبهة بذاته في النطاق الشعبي ليضيف مرحلة (الشخص محل الفحص) ولا يجوز بموجبه لقاضي التحقيق أن يصدر مذكرة توقيف إلا بعد موافقة قاضي تم استحداثه بموجب القانون الجديد اسماه قاضي الحريات العامة وأساس هذا الاستحداث هو إن قضاة التحقيق، وهم من الشباب حديثي التخرج عادة، يميلون عادة إلى إجراء التوقيف كوسيلة لإنجاح مهامهم التحقيقية واثبات مهاراتهم فيكون ذلك على حساب نظام الحريات العامة..أما سيناريو قانون الأصول العراقي فان مجرد الشكوى تقود إلى الاستدعاء من قبل قاضي التحقيق فوراً ليقرر توقيف المتهم أو إطلاق سرحه بكفالة إذا كانت المادة التي أثيرت الشكوى بشأنها تسمح بذلك ومن الواضح إن النظام السابق قد حمى نفسه من هذه الإجراءات بموجب المادة 136/ب أصول محل طلب الإلغاء ليترك عموم المواطنين امام قانون لا يرحم وينسجم مع توجهاته لوضع أي مواطن خلف القضبان وبموجب إجراءات تبدو من الظاهر قانونية ويأمر بها قضاة لاشك في نزاهتهم ولكن لا خيار لهم بموجب القانون النافذ إلا التوقيع على أمر التوقيف وتمديده بناءا على طلب جهات التحقيق المختصة المخولة بالقبض دون إذن قضائي في حالات عديدة (2). وكان ضحايا ذلك الكثير من المواطنين والمواطنات الأبرياء الذين تم توقيفهم لفترات طويلة بناءا على شكاوى كيدية ثبتت فيما بعد براءتهم بعد أن نال التشويه سمعتهم ومركزهم الاجتماعي وتدور حول ذلك قصص كثيرة. ولكن ما الذي سيحصل من سيناريوهات إذا ألغيت هذه المادة دون وضع قانون جديد للأصول يحمي المواطن ورجال الدولة معاً من الدعاوى الكيدية؟ان الذي سيحصل ان أي مواطن بسيط، أو إرهابي، أية جماعة خارجة عن القانون، او أي شخص في قلبه مرض ولوعة من رجال العراق الجديد يستطيع ان يضع الحكومة كلها في ورطة وخلف القضبان بمجرد شكوى بسيطة حيكت مقوماتها بدقة من العارفين والخبراء في دروب الشر والعدوان، لنرى جميع المسؤولين كبارا وصغارا خلف القضبان لتستمر الإجراءات أشهرا وربما سنوات لتظهر الحقيقة بعد أن تنال الإجراءات المعقدة من حياتهم وكرامتهم!!!!. وهذا ينطبق ايضاً على أي شخص لديه حصانة مؤقتة فالقانون العراقي لا يعرف نظام التقادم في القضايا الجزائية، فضلا عن إمكانية استخدام ذلك كوسيلة من وسائل الإسقاط السياسي خارج نطاق الحكومة. وقد تابعنا منذ أكثر من سنة وعلى شاشات الفضائيات كيف ان المحققين والشرطة الإسرائيلية كانت تزور رئيس الدولة في منزله للتحقيق في قضية فساد ولم يستدع الى المحكمة إلا بعد حوالي السنة عندما توفرت أدلة كافية وهكذا الحال مع رئيس الوزراء الايطالي الذي تجري معه تحقيقات متعلقة بالفساد منذ فترة من الزمن وهو يمارس عمله بشكل طبيعي.ومن باب ان الشيء بالشيء يذكر إن نظام المخبر السري معمول به في جميع أنحاء المعمورة بلا استثناء ولا مشاكل ولا شكاوى عامة بشأنه إلا في العراق والسبب أصبح واضحاً الآن انه القانون ذاته، قانون الأصول، الذي يحول المواطن إلى متهم بمجرد إخبار من شخص لا يعرف هويته ولن يعرفه يوما ما، وفي ذلك إخلال بين في حق الدفاع عن النفس فربما يكون المخبر السري احد خصومه وكان الإخبار وسيلته غير المشروعة للانتقام من خصمه، ولو كان يعرفه لأبلغ القاضي وجلب شهودا بذلك ولانتهى الموضوع في ساعات، وهذا يعني في النهاية ان الحريات العامة هي حبر على ورق في ظل قانون الأصول النافذ.ان المادة 136/ب أصول هي الوليد الشرعي لقانون أصول المحاكمات الجزائية النافذ وهي تدور معه وجوداً وعدماً والغاها يتطلب إلغاء القانون النافذ ليحل محله قانون أصول محاكمات يكون فعلاً قانونا للحريات العامة ويتوافق مع المبادئ الدستورية النافذة ليحمي جميع المواطنين بما فيهم رجال الدولة من كيد الكائدين.ان القوانين المحكمة الصياغة والتي تضبط الصلاحيات في حدود الحاجة الفعلية للتصرف القانوني والمادي لسلطات الدولة توفر ضمانات كافية للمواطنين وتمنع استغلال الوظيفة العامة وابتزاز المواطنين .وكان الأحرى برجال التشريع في العراق أن يبادروا الى صياغة قانون أصول جديد يتلاءم مع الوضع الدستوري الجديد والأفكار القانونية الحديثة في هذا المجال وبدون ذلك تضحى الحقوق والحريات العامة حبرا على ورق .******1ـ كما اكدنا في بحوث نشرت منذ العام 2006 بعد معايشتنا لمئات الدعاوى الكيدية في عملنا في هيئة النزاهة والتي لم نكن نملك ازاها إلا إجراءات شكلية كالتوقيع والإحالة للقضاء دون مناقشة بناء على متطلبات القانون النافذ المشار إليه وقد بعثنا بنسخ من هذه البحوث لجميع هيئات الدولة العليا في وقته، انظر بحثنا (العدالة الجنائية في نطاق الوظيفة العامة) وبحثنا (قانون الحريات العامة). انظر مدونتنا (الثقافة القانونية للجميع) على الرابط:http://farisalajrish.maktoobblog.com/2ـ انظر المادة (50 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971.
https://telegram.me/buratha