عادل الجبوري
مثلما خلقت القمة العربية التي كان مزمعا عقدها في العاصمة العراقية بغداد اواخر شهر اذار-مارس الماضي جدلا وسجالا مبكرين بين الاوساط الرسمية والشعبية العراقية، فأنها يمكن ان تكون قد ساهمت في احداث المزيد من الشروخات والتصدعات في الكيان العربي الذي هو اصلا يشهد حالة مزمنة من الضعف والتصدع والاهتزاز.وحتى قبل التاسع عشر من شهر كانون الاول-ديسمبر الماضي، وهو يوم انطلاق شرارة الثورات العربية ضد الانظمة الحاكمة من تونس، كانت المحافل السياسية والاعلامية العربية، وخصوصا في الدول ذات التأثير الكبير مثل العربية السعودية ومصر وسوريا والاردن، تتساءل عن جدوى ذهاب القادة والزعماء العرب الى بغداد، وبعدما تفجرت الثورات والانتفاضات بات التساؤل يتمحور حول امكانية ترك الزعماء العرب المهددين بالسقوط لمواقعهم والتوجه الى بغداد، وبعدما اخذت بعض الثورات والانتفاضات بعدا طائفيا وكان للعراق موقفا رسميا وشعبيا حيالها، اصبح تساؤل البعض هو كيف ولماذا نذهب الى بغداد والمواقف هناك غير منسجمة مع مجمل المواقف والتوجهات الحكومية العربية.ولعل لقاء وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري مع الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى في القاهرة نهاية الاسبوع الماضي وضع حدا لمثل هذه التساؤلات ولكثير من السجالات والفرضيات والاحتمالات، حينما اعلنا تأجيل عقد القمة العربية الى شهر اذار-مارس من العام المقبل 2012 بناء على طلب العراق بحسب ماذكر كل من زيباري وموسى لوسائل الاعلام، مع احتفاظ العراق بحق استضافتها، وهذه العبارة الاخيرة بدت فضفاضة وعائمة، لاسيما وان بعض المصادر قد سربت معلومات مفادها ان القمة في حال عقدت العام المقبل فأنها سوف تعقد في دولة المقر، اي في مصر.اين الحقيقة مما اعلنه وزير الخارجية العراقي والامين العام للجامعة العربية؟..في الواقع أن تفاعلات الاحداث والمواقف خلف الكواليس لم تكن هي ذاتها التي برزت على السطح واعلن عنها عبر القنوات الرسمية.فالعراق لم يطلب بشكل رسمي تحريري تأجيل عقد القمة العربية، بل ان طلبه جاء كأمر واقع فرضته اطراف عربية، وظروف عربية، ومواقف عربية. وما يعزز ذلك هو ماصرح به عمرو موسى قبل حوالي اسبوع بقوله "ان العالم العربي منشغل بظروف معينة فرضتها الثورات الحالية وبالتالي فأن كثيرا من الدول قد لا تستطيع الحضور لهذا السبب، لذلك فان موعد انعقاد القمة لابد ان يؤجل، وقد تحدثت في ذلك مع وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري، وليس صحيحا ان هناك اتجاها لالغائها، كما ان انعقاد القمة في بغداد مقرر ولا خلاف عليه، لكن الظروف الآن غير مؤاتية بالفعل".ويضيف موسى "ان تفاقم الخلاف الخليجي العراقي، وما رأيناه في ليبيا، والوضع في اليمن وسوريا والبحرين وغيرها، يجعل حضور الرؤساء انفسهم امرا مشكوكا فيه".وتشير مصادر مطلعة على جانب من مجريات الامور الى ان الدول الخليجية ، وبالتحديد السعودية والبحرين والامارات اكدت للاعضاء الاخرين في الجامعة وللعراق ايضا انها ستقاطع القمة بالكامل في حال عقدت ببغداد، ولم تتردد في الافصاح عن خلفية هذا الموقف الذي جاء كردة فعل رأها البعض طبيعية ومتوقعة على موقف العراق الداعم لانتفاضة الشعب البحريني ورفضه دخول قوات درع الجزيرة السعودية الى البحرين وتأييدها لطرف على حساب طرف اخر انطلاقا من حسابات طائفية ومذهبية، وكان وزير الخارجية البحريني خالد بن احمد آل خليفة قد اعلن قبل اربعة اسابيع "ان دول مجلس التعاون الخليجي طلبت الغاء القمة العربية اثر تصريحات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ومسؤولين اخرين نددوا فيها بالتدخل السعودي في البحرين".اما الاطراف الخليجية الاخرى وبالدرجة الاساس التي اعلنت منذ وقت مبكر انها ستحضر القمة العربية ببغداد وبأعلى مستوى مثل الكويت،فأنها وجدت نفسها في وضع حرج، لتضطر الى مسايرة -او في اقل تقدير تجنب الاصطدام مع-اشقائها الخليجيين، بينما لم يكن لكل من قطر وعمان موقف وتوجه واضح منذ البداية. ويبدو ان الاجتماع الاخير لوزراء خارجية دول الجامعة العربية وممثليها الدائمين والذي اعلن فيه ارجاء عقد القمة الى شهر ايلول -سبتمبر المقبل قبل الاعلان عن تأجيلها الى عام 2012، قد شهد اجواء متشنجة الى حد كبير.وقد تحدث البعض بصراحة مخاطبا الوفد العراقي، قائلا من تريدون ان يحضر الى بغداد على افتراض ان الاوضاع الامنية مستتبة، الرئيس التونسي المؤقت ، ام رئيس السلطة العسكرية الانتقالية في مصر، ام القذافي، ام عبد الله صالح ، ام بشار الاسد، ام ملك البحرين الذي تريدون ازاحته"!.ولم تتضح فحوى الرسالة التي حملها الوكيل الاقدم لوزارة الداخلية العراقي عدنان الاسدي من المالكي الى عمرو موسى، ولكن اوساط مقربة من مكتب رئيس الوزراء اكدت ان تلك الرسالة تضمنت غضب واستياء رئيس الحكومة العراقية من مواقف بعض الاطراف العربية-الخليجية-ازاء العراق. ومع انه رغم التحضيرات الواسعة والمبكرة من قبل الحكومة العراقية للقمة فأن معظم القراءات كانت تذهب الى عدم جدوى عقدها في هذا الوقت، بل وعدم امكانية عقدها بعد تفجر الثورات والانتفاضات العربية، لعدة اسباب من بينها-او من ابرزها-ان لغة الحوار باتت معطلة في اطار الواقع العربي الراهن، علما انها لم تكن في يوم من الايام مثمرة ومجدية وفاعلة في معالجة المشاكل والازمات، وايجاد الحلول والمعالجات الناجعة لها.والحكومة العراقية التي كانت تدرك منذ البداية ان قمة عربية تعقد في بغداد ايا تكن الظروف والاجواء المحيطة بها، ستكون فرص نجاحها محدودة-ان لم تكن معدومة-سعت جاهدة لعقدها من اجل تحقيق مكاسب سياسية من شأنها تعزيز موقع العراق ومكانته في محيطه العربي والاقليمي، وتطلق رسائل مفادها ان التجربة السياسية الديمقراطية في هذا البلد ترسخت ونجحت في كسر طوق العزلة الذي حاولت بعض الاطراف العربية-بسبب نزعات وعقد طائفية ومذهبية-ضربه حولها.ومعلوم ان الحكومة العراقية انفقت اكثر من اربعمائة وخمسين مليون دولار في اطار التحضيرات للقمة، لترميم مجمومة من فنادق الدرجة الاولى والشوارع واماكن الضيافة وما الى ذلك، وهذا ما تسبب في اثارة موجة من الانتقادات الحادة واللاذعة من قبل جهات سياسية عراقية عديدة، رأت في انفاق هذه الاموال الطائلة امر لامبرر له، في ظل المؤشرات الكثيرة على استحالة انعقاد القمة خلال وقت قريب، وفي ظل اولويات امنية وخدمية يفرضها الشارع العراقي من الصعب بمكان تجاهلها او القفز عليها.وقد تبدو مسألة الانفاق الحكومي من اجل اعمار وترميم مجموعة من المنشات والبنى التحتية تحضيرا للقمة ليس بالامر المهم، خصوصا وان عمليات الاعمار والترميم لاتنطوي على تبعات سلبية حتى وان لم تعقد القمة، لكن الامر المهم هو الخلفيات والاسباب الحقيقية التي ادت الى التأجيل، او بتعبير اخر الى الغاء عقد القمة في بغداد، والتي لاتخرج بالاساس عن تفاعلات الاحداث في البحرين وموقف العراق منها.وسواء اعتبرناها العامل الاساس للتأجيل او الالغاء، او انها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، فهي اشرت في واقع الامر الى حقيقة ان الهوة مازالت كبيرة وواسعة بين العراق وبعض اشقائه العرب، وان من يريد ردمها سيجد في طريقه عقبات كبرى، لان واقع تلك العلاقات محكومة بتراكمات الماضي، وبعقد الحاضر، وبطبيعة المعادلات والتوازنات السياسية الاقليمية في المنطقة التي باتت تحكمها العناوين والاعتبارات الطائفية اكثر منه شيئا اخر..انها معادلات وتوازنات معقد وشائكة وحساسة ، والعراق فيها رقم الى جانب ارقام اخرى تمثلها ايران وسوريا والسعودية-وكل المنظومة الخليجية-ومصر والاردن وتركيا وحتى اسرائيل، اضافة الى ارقام دولية اخرى تدفع بأتجاهات معينة.ومن الخطأ ان نقرأ قضية تأجيل وعرقلة عقد القمة من زاوية واحدة ونغض الطرف عن الزوايا الاخرى التي من دونها لاتكتمل الصورة ولاتتضح كل الوانها وخطوطها ومعالمها وملامحها.
https://telegram.me/buratha