اسماعيل علوان التميمي
لم تات استقالة عبد المهدي من موقعه كنائب اول لرئيس الجمهورية من فراغ . كما انها لم تكن رد فعل سريع على فعل سياسي بعينه . ولم تكن مناورة سياسية لاحراج الحكومة او محاولة لاعادة تشكيل المحاور للحصول على مكاسب ضيقة من خلال اسقاط الحكومة بعد انهاء مهلة ال 100 يوم والترشح لرئاسة الوزراء كما يحلو لبعض الخصوم السياسيين تفسيرها .. وانما هي ببساطة موقف وطني عبر عنه برسالة احتجاج قوية وواضحة موجهة لكل القوى السياسية العراقية احتجاجا على الخطوط الحمراء التي وصلت اليها التدافعات السياسية على المناصب السياسية في الدولة ، ومخاطر ذلك على الوضع السياسي العام وعلى مستقبل العملية السياسية برمتها، وعلى سير دواليب مؤسسات الدولة ، التي اجهدها بشدة الاداء المتدني لصناع القرارالسياسي في عراق ما بعد الدكتاتورية . وضرورة ان تراجع هذه القوى حساباتها ومواقفها وتشرع فورا في اخضاع مصالحها الحزبية والفئوية الضيقة لدواعي المصلحة الوطنية العليا ولمطالب الشعب الذي خرج ساخطا على فشل الاداء السياسي والحكومي في العاصمة والمحافظات كافة.يبدو ان مياها كثيرة مرت من تحت الجسور وان عوامل كثيرة قد تراكمت وتفاقمت وتفاعلت مع بعضها قبل ان يتخذ السيد عبد المهدي قرار الاستقالة موضوع بحثنا هذا ، ونحن هنا نحاول قراءة وتحليل هذه الاستقالة واسبابها ودلالاتها بشكل موضوعي دون الاستعانة بفرضيات وادوات نظرية المؤامرة ، تلك النظرية الاكثر شيوعا واستخداما في صالونات السياسة في العراق القديم والجديد .يتفق معظم االمتخصصين بتحليل المشهد السياسي العراقي على ان السيد عادل عبد المهدي من الشخصيات السياسية المعروفة بتاريخها الاسري والوطني المشرف وهو يعد من كبار السياسيين العراقيين ومن المؤسسين البارزين للعملية السياسية ، ويحظى باوسع قبول خارج مكونه ، كما انه عرف بزهده بالمناصب السياسية وبرهن على ذلك في عدة مواقف معلومة للجميع ولا اظن هناك حاجة لتكرارها ، كما انه يمتلك مزايا قيادية معروفة وحكمة وقدرة خاصة على ادارة ملفات سياسية واقتصادية شائكة . بيد ان هذه المزايا التي يتمتع بها السيد عبد المهدي كانت سببا رئيسيا لان تستهدفه نيران كتائب التسقيط السياسي المنتشرة في ثكنات بعض القوى السياسية التي وضعته هدفا ثابتا ودائما لها ، وبقيت جاهزة لاطلاق وابل نيرانها عليه بمناسبة وبدون مناسبة ، لاسباب معلومة ايضا للجميع . بينما لم نسمع يوما ان عبد المهدي قد رد على هذه النيران او جرح مشاعر احد من هؤلاء الخصوم او كشف او سرب معلومات او وثائق - وما اكثرها لديه - التي من شانها ان تحرج خصومه ، بل على العكس تماما كان اول من يبارك لهم عندما يلتقط منهم اية اشارة ايجابية بالاتجاه الصحيح ، ولكن عندما يرى ان السفينة بدات تظل طريقها فانه ينبه فورا الى مخاطر ذلك بشكل صريح وبعبارات مباشرة ومضغوطة ، بهدف واحد وواضح ومحدد هو تصحيح وتصويب المسارات وضبط الاتجاه حرصا على مستقبل العراق والعراقيين . بداية وقبل ان نبدا بتحليل اسباب الاستقالة ، لابد ان نتعرف على اسبابها من وجهة نظر المستقيل اولا. فمكتب عبد المهدي اعلن من جانبه ان الاستقالته جاءت بسبب «عدم التزام مجلس رئاسة الجمهورية بالاتفاقات التي على أساسها عاد عن اعتذاره عن تسلم المنصب قبل تصويت البرلمان على نواب الرئيس، والامتعاض الشعبي الذي أثاره التصويت على ثلاثة نواب له )) في رسالته الجوابية الى السيد عدنان الفضلي مدير تحرير البينة الجديدة الذي كتب مقالة بعنوان ( صديقي عادل عبد المهدي ...انسحب انها لا تليق بك.) يقول عبد المهدي ( فكتبت في 25/3/2011 رسالة لفخامة الرئيس الطالباني ذكرت فيها «اشكركم على الثقة الفائقة بطلبكم ان نستمر في ممارسة مهامنا كنائبي رئيس الجمهورية.. وعلى ترشيحكم لنا.. لكنني، بعد تفكير معمق بمسارات الامور وتشخيص المصالح العامة للبلاد وصلت الى قناعة واضحة بانني لن استطيع تأدية واجباتي ومسؤولياتي امامكم وامام شعبنا بالشكل الصحيح، لذلك ارجو من فخامتكم سحب ترشيحي لهذا المنصب، مع كامل تقديري لكم ولكل القوى السياسية والوطنية الداعمة لهذا الترشيح.».. لكن الرئيس اصر ورفض الطلب.. ) كتلة المستقيل من جانبها ذكرت عدة اسباب لاستقالة عبد المهدي حيث جاء ذلك في تصريح ادلى به القيادي في «المجلس الاعلى» عبد الحسين عبطان لـ «الحياة» ان «الاستقالة مدروسة داخل المجلس الذي يمثله الدكتور عادل عبدالمهدي في المنصب ولها اسباب عدة في مقدمها السخط الجماهيري على وجود ثلاث نواب لرئيس الجمهورية في صفقة لم نكن نعلم بها ولم نصوت لصالحها داخل البرلمان، كما ان المرجعية الدينية كانت عارضت ذلك وطالبت بترشيق المناصب الحكومية خدمة لمصالح الشعب الذي يعيش في ظروف صعبة في وقت ينشغل السياسيون في الصراع على المناصب .)وبعد ان استعرضنا اسباب الاستقالة من وجهة نظر المستقيل وكتلته ، نحاول الان ان نبحث اسباب الاستقالة على ضوء معطيات الوضع السياسي القائم وافرازاته على حركة دواليب مؤسسات الدولة اذا جاز التعبير. وهنا لا بد لنا من توصيف الوضع السياسي القائم في البلاد وتحديدا بعد الانتخابات النيابية الاخيرة التي جرت في السابع من اذار من العام الماضي لان هذا الوضع وتداعياته وما ال اليه هو السبب الجوهري الذي كان يقف وراء الاستقالة ، والذي يمكن توصيفه بالنقاط التالية .1- عدم اتفاق الكتل السياسية على تشكيل الحكومة ضمن التوقيتات الدستورية المحددة لها ، مما اضطر رئيس السن ابقاء جلسة الانعقاد الاولى مفتوحة خلافا للدستورلاكثر من ستة اشهر. حاول عبد المهدي جاهدا خلال فترة التاخير هذه ان يحرك مياه النهر نحو سواقيها ، فبادر الى الحضور اليومي الى البرلمان لحث النواب على عقد الجلسة ومباشرة اعمالهم في مجلس النواب ،الا ان المياه بقيت راكدة في مجرى النهرولم يتم استئناف الجلسة الا بعد صدور قرار المحكمة الاتحادية بعدم دستورية قرار ابقاء الجلسة مفتوحة وامهال مجلس النواب 15 يوما لاستئنافها ، بناء على دعوى اقامها كاتب هذه المقالة بصفته الشخصية ودعوى اخرى تزامنت معها اقامتها احدى منظمات المجتمع المدني .2- عدم تقديم تشكيلة حكومية متكاملة في جلسة التصويت على الحكومة خلافا للدستورمما ادى لاحقا الى تشكيل الحكومة بالتقسيط المريح (اربعة اقساط ) ومازال القسط الاخير( تسمية الوزراء الامنيين) لم يسدد بعد رغم مرور ستة اشهر على استحقاقه وهذا ادى الى حصول خلل واضح في اداء الاجهزة الامنية ثمنه المزيد من الدماء العراقية التي تسفك يوميا دون توقف . 3- استمرار الخلاف بين القائمة العراقية والتحالف الوطني حول تنفيذ اتفاقات اربيل دون التوصل طيلة الفترة المنصرمة الى اي تسوية مقبولة من قبل الطرفين مما ادى الى تعطيل انجازالكثيرمما كان يمكن تقديمه للمواطنين لو تم الاتفاق بين الطرفين على العمل كفريق حكومي واحد ، والخاسر الاكبر من استمرار هذا الوضع هو المواطن ايضا.4-استمرار التدافع على المناصب السياسية ليس ارضاء لرغبات امراء الكتل فحسب وانما ارضاء لرغبات كبارامراء الكتلة الواحدة ، والا ماهو تبرير ترشيح الخزاعي ليكون ثالث نائب لرئيس الجمهورية؟ اين المصلحة الوطنية في هذا الترشيح ؟وما ذا يعني تمسكه بالترشيح للمنصب وتهديده بالانسحاب اذا لم يتم ترشيحه ؟ ومع عدم قناعتنا مطلقا باستحداث ثلاثة نواب لرئيس الجمهورية وان نائب واحد يكفي ويزيد ، ولكن دعنا نفترض ان الحكمة التي دفعت مجلس النواب الى ذلك هو ضرورة تمثيل سائر المكونات الوطنية في هذا المنصب السيادي. فهل يتوفر هذا الشرط بالخزاعي ؟. الا يعني ترشيحه لمنصب نائب ثالث للرئيس امعانا في تحدي مطالب الشعب والمرجعية في ترشيق مناصب الدولة؟ واذا كان لابد من نائب ثالث للرئيس فكان يفترض ان يتم ترشيح نائب عن التركمان لتوسيع دائرة التمثيل . ولا ادري كيف قبل المصوتون لانفسهم ان يصوتوا لنائبين من مكون واحد ولثلاثة نواب بسلة واحدة؟ اين مبدا التوافق الذي يتشدق به الجميع ؟ ثم ، ما هي المصلحة الوطنية من تشكيل حكومة بثلاثة واربعين وزيرا في دولة اتحادية التي عادة تقتصر حكومتها على الوزارات الاتحادية فقط التي غالبا لا تتجاوز ال 10 وزارات في الحد الاقصى ؟. ان هذا التدافع على المناصب واستحداث وزارات ومناصب سيادية اضافية قد استفز كثيرا عموم الشعب الذي يدفع في النهاية ثمن ذلك من ماله العام ومن زمنه العام - اذا جاز التعبير- 5- استياء المرجعية من اداء البرلمان والحكومة على حد سواء ورفض سماحة السيد السيستاني استقبال كبار مسؤولي الدولة لعدم رضاه عن ادائهم وتاكيد المرجعية المستمر على توسيع الخدمات وترشيق المناصب ، الا ان الذي حصل هو توسيع المناصب وترشيق الخدمات ، وجاء تصويت البرلمان على ثلاثة نواب لرئيس الجمهورية في سلة واحدة ليزيد استياء المرجعية الشديد من الاداء السياسي السيء والتحدي الصارخ لارادة الشعب التي هي بالتاكيد ارادة المرجعية .7-السخط الشعبي العام من الاداء السياسي والحكومي السيء الذي عبرت عنه الاحتجاجات والمظاهرات التي اجتاحت محافظات العراق كافة مطالبة بتحسين الخدمات العامة والحد من الفساد الاداري وترشيق المناصب وتخفيض رواتب وامتيازات الرئاسات الثلاث . ولم يتم الى اليوم تلبية اي من هذه المطالب .8- افتقار العمل في البرلمان والحكومة على حد سواء الى التنظيم والى الخطط الاستراتيجية المطلوبة لبناء الدولة الحديثة الذي ادى بدوره الى ارباك العمل البرلماني والحكومي وترهل وهشاشة مؤسسات الدولة التي فقدت الى حد بعيد قدرتها على تنفيذ ايعازات الحكومة بالشكل والتوقيت المطلوب ،لذلك وفي محاولة من عبد المهدي لتنظيم العمل في الرئاسة قدم خطة متكاملة لتنظيم وتطويروتفعيل عمل الرئاسة قضى وقت طويلا في الاشتغال عليها وحصل على موافقة تحريرية عليها من الرئيس . الا انه اصطدم اخيرا بسواتر وخنادق منيعة حالت دون احراز اي تقدم في هذا المجال وتصر على بقاء الحال على ما هو عليه.لهذه الاسبالب مجتمعة وبعد دراسة مستفيضة وفحص الخيارات المتاحة امامه بعناية يبدو ان عبد المهدي قد اتخذ قراره بالاستقالة كخيار وطني لا بد منه ليناى بنفسه بعيدا عن لعبة التدافع ويبعث برسالة احتجاج قوية على مجمل الاوضاع السياسية في البلاد وهي دعوة لكبار السياسيين لان يرتفعوا ويحلقوا بالاعالي فوق كل الصغائر ويخضعوا كل مصالحهم الى المصلحة الوطنية العليا ويصوبوا المسارات ويضبطوا الاتجاه ويعملوا بروح الفريق الواحد كي لا تظل السفينة طريقها ويقع المحذور لا سامح الله . ويبقى عبد المهدي كما عهدناه لاعبا رئيسيا في الميدان و تحت اي عنوان .
https://telegram.me/buratha