بقلم محمد صبري الربيعي
عرف العرب بالفصاحة والبلاغة ، وخاصة في مجال الشعر الذي كان ينساب على السنتهم كما ينساب الماء في الجدول ، وقد لا نبالغ اذا قلنا ان الشعر لدى العرب فطري حيث كان لدى صبيانهم القدرة على نظم الاشعار ، وقد بلغت محبة العرب للشعر بانهم كانوا يحتفلون اذا ما ولد شاعر في القبيلة كاحتفالهم ببروز فارس لديهم ، فالفارس كان يصنع مجد القبيلة بسيفه ، والشاعر يخلد هذا المجد بقصائده ، وبلغ من اعتزاز العرب بالشعر الجميل ان علقوا بعض القصائد على استار الكعبة وهي القصائد المعروفة بالمعلقات السبع ، وكانت لديهم اسواق ومناسبات للتنافس بين الشعراء كسوق عكاظ والمربد وغيرهما ، وحتما كانت البلاغة العربية هي سبب كون القران الكريم معجزة خاتم الانبياء والمرسلين لانه تحدى فصاحة العرب من الاتيان بمثله ، ولكن ما يلاحظ ان الشعر قد تراجع الى المرتبة الثانية بعد الخطابة والنثر في مطلع الاسلام لاسباب عديدة منها ان القران الكريم قد نزل نثرا لا شعرا ، ومنها ايضا ان الاهتمام قد تحول الى النثر لكون الخطب الدينية خطب نثرية وليست شعرية ، ومن ضمن الاسباب المهمة ايضا في تراجع اهمية الشعر في تلك المرحلة هو تعاليم الدين الاسلامي التي نهت عن كثير من الامور ومنها الكذب ، وقد كان يقال ( ان اعذب الشعر اكذبه ) ، ومع بداية حكم الدولة الاموية عاد الشعر الى مكانته السابقة وظهر شعراء تركوا بصماتهم الواضحة والقوية في تاريخ الادب العربي كالمتنبي والمعري وغيرهم الكثيرين .هذه المقدمة كان لابد منها للوغول الى صلب موضوعنا الذي نحن بصدد طرحه ومناقشته ، فالشعر العربي ( المعروف بالعمودي )هو ادب رصين يرتكز على قوة التعبير والكلمات في بحور شعرية واوزان وقوافي تطرب اذان من يستمع للقصيدة ، وفي النصف الاول من القرن العشرين ، وبالذات في عام 1947 ظهر نوع جديد من الشعر اطلق عليه تسمية ( الشعر الحر ) او ( شعر التفعيلة ) على يد الشاعرة العراقية نازك الملائكة عندما نشرت قصيدتها المعروفة بـ( الكوليرا ) وكذلك الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي نشر قصيدته المعروفة بـ( هل كان حبا ) واصبح هذا النوع من الشعر ظاهرة امتاز بها ادب القرن العشرين ، والشعر الحر هو مجموعة قصائد تعتمد الشطر الواحد , ولا تتقيد أشطرها بعدد معين من التفعيلات , فقد يرد الشطر ذو تفعيلتين , يليه آخر ذو أربع تفعيلات , وثالث ذو تفعيلة واحدة وهكذا . ويجوز كذلك تغيير التفعيلة لكن ضمن ضوابط وأصول وهي أن يقوم النص على وحدة التفعيلة في كل سطر شعري .وهناك ملاحظة مهمة يجب ان لا نغفل عنها ، وهي ان شعراء التفعيلة تمردوا على الشعر العمودي بعد ان ادركوا كنهه ، وامتلكوا القدرة على نظمه ، ولكن رغبتهم في التغيير كانت اكبر ، فالسياب مثلا قد نظم ثمان قصائد عمودية قبل انتقاله الى الشعر الحر ، بل انه استهل اول دواوينه الشعرية بقصيدة عمودية :ديوان شعر ملؤه غزل بين العذارى بات ينتقلولنأتي الان على ما يسمى ( قصيدة النثر ) ، ونبدأ ببيان ان جذور هذا النوع من الكتابة ليس عربيا ، فرواده هم الفرنسيان برتران و بودلير والامريكي والت وايتمان ، وهذا اول ما يعاب على هذا النوع من الكتابة كونها هجينة وليست اصيلة كالشعر العمودي والشعر الحر ، وقصيدة النثر لا تنتمي الى السياق الشعري المألوف وانما تنتمي بالاساس الى السياق العام للنثر ، وهي ليست مزج بين الشعر والنثر كما قد يخطئ البعض في تصوره ، فهي خارج هذه المعادلة تماما ، على اعتبار ان المزج بين الشعر والنثر يؤدي بنا الى ما يسمى ( النص المفتوح ) ، اي ان القصيدة النثرية باختصار هي نثر غايته التقرب من الشعر بدون جدوى . اذ ليس لها بحور ولا اوزان ولا قوافي ولا تفعيلات ولا تشطيرات ، وسبب ذلك بسيط وواضح ، اذ ان النثر لا يمتلك هذه الادوات ، وهناك امر ثان لابد من الاشارة اليه وهو ان النثر فيه نمط يعد غاية في الروعة والبلاغة الادبية مما يرقى الى مستوى الشعر ويناجزه ، وهو ما يعرف بالسجع ، الذي لم يتمكن احد من كتاب هذا النمط من التقرب منه وليس الوصول اليه ، وانما جل ما يستطيعون الوصول اليه هو الدوران في محور فارغ بكلمات احيانا لا تنتمي الى قاموس اللغة العربية ، بداعي الحداثة والتجديد ، ولكن التجديد لا يجب ان يكون بالتنصل عن تاريخ امة وانما يجب ان يكون مستندا على هذا التاريخ للقفز الى المستقبل ، وذات يوم قال لي استاذي بالفلسفة الدكتور حسام الدين الالوسي ( لا يمكن ان يسمى شاعرا من يعجز عن نظم ولو بيت واحد من الشعر العمودي ) ، لذا فانني اختم كتابتي بالقول انه لا يصح اطلاق تسمية القصيدة النثرية على ما يكتب الان ، ويجب ان يطلق عليها تسمية اقرب الى واقعها مثل ( مقطوعات نثرية ) او ( هواجس وجدانية ) حتى لا تختلط الامور ونقع في خطأ تسمية من يكتبون هذا النوع من النثر ( بالشعراء ) .
بقلممحمد صبري الربيعي
https://telegram.me/buratha