السيد حسين محمد هادي الصدر
من التاريخ الى الجغرافية المثير في خطاب التزوير ليس " التزوير " من مبتدعات مرحلتنا الراهنة ، وأنْ كان قد كثُر فيها الى حّد بعيد ..!!فللتزوير تاريخه الطويل ، وصورُه العديدة ، وأساليبه الغريبة ، وفرسانُه البارعون .ان أبرز أمثلة التزوير اليوم ، هو تزوير الشهادات والوثائق الدراسية ، لمختلف مراحل الدراسة ، وتقديمها في طلبات التعيين في مختلف دوائر الدولة .وقد أكتُشف من هذه الشهادات المزورة الآلاف المؤلفة ، والباب مفتوح أمام الاكتشافات الأخرى المستمرة .وما دام المزورون يحظون بقوانين العفو ، مرة بعد مرة فلن تكون هناك نهاية حاسمة ، لهذا المنحى الرهيب .والغريب ان المزورين ، هم أحسن حالاً من غيرهم .وهكذا يتقدم ( الكاذب ) على (الصادق) في حلبات ، ضاعت فيها الموازين ، ونجح فيها جند الشياطين ...!!!وقد وقفتُ على حكاية أوردها القاضي أبو الحسين عبيد الله بن عيّاش ، أحاول ان ألخصها ، وأشير الى أهم ما ورد فيها ، وهي تصلح ان تكون الجذر التاريخي ، لما نشهده في أيامنا من مكافئة المزورين ...!!!لقد زوّر احدهم كتاباً عن الوزير (ابي الحسن بن الفرات ) موجّهاً الى (أبي زنبور المادرائي ) عامل مصر ، يتضمن الوصاية به ،والتاكيد في الاقبال عليه والاحسان اليه .وخرج الى مصر ، فلقيه به وأرتاب ( أبو الزنبور ) بالكتاب ، فأرسله الى الوزير بن الفرات ببغداد ، بعد أن أستبقى الرجل عنده ، ووصله بصلة قليلة .وحين وصل الكتاب المزوَّر الى الوزير ، وجد فيه ذكر الرجل ، وأنه من ذوي الحرمات والحقوق الواجبة عليه .....وعرض الوزير الكتاب، على أصحابه وكتّابه ، ووضعهم في صورة ما وقف عليه ، وسألهم عن رأيهم في ما يجب اتخاذه مع الرجل المزور :أشار بعضهم الى وجوب تأديبه وسجنه .وقال اخر : لابُدَّ من قطع إبهامه لئلا يعاود مثل هذا ، ولئلا يقتدي به غيره وقال أحسنهم : يكشف لابي زنبور - عامل مصر - عن الحقيقة ، مع التوجيه بطرده وحرمانه .فلم يقبل الوزير أقوالهم وقال - في جملة ما قال - :" رجل توسل بنا ، وتحمل المشقة ، الى مصر، في تأميل الصلاح بجاهنا ، واستمداد صنع الله عز وجل بالانتساب الينا ويكون عند أحسنكم محضراً تكذيب ظنه ، وتخييب سعيه .والله لا كان هذا أبداً "ثم أن الوزير أخذ القلم ، ووّقع على الكتاب المزوّر :" هذا كتابي ولست أعلم ، لِمَ أنكرتَ أمره .." ؟ورده إلى " أبي زنبور "ثم أن المزور ، بعد مدة طويلة ، وفد على الوزير أبن الفرات ، وهو يدعو له ويثني عليه فقال له ابن الفرات :من أنت ؟ بارك الله فيك ، فقال :أنا صاحب الكتاب المزوَّر الى أبي زنبور عامل مصر ، الذي صححه كرم الوزير .....فضحك أبن الفرات وقال :كم وصل اليك منه ؟فكان الجواب ان ما وصله بلغ عشرين ألف دينار فقال أبن الفرات :الحمد لله ثم انه أبقاه عنده ، وأستخدمه ، وأكسبه مالاً جزيلاً انّ مِعْدةَ أبن الفرات ، معدةٌ هاضمة ، ولم يثر هذا التزوير في نفسه ، أي لون من ألوان الغضب ، بل أنه كافئ المزور وأحسن معاملته ....ان هذه القصة ، ارتبطتْ بشخص معّين فهانت .وأما ظاهرة التزوير المتفشي عندنا فهي ليست محدودة في نطاق ضيق يسهل التغاضي عنه كما أنها ليست مسألة شخصية على الأطلاق .انها مسألة تزوير للعقود الوهمية وتزوير للموّاد المستوردة وتزوير للوثائق والمستندات الخاصة بتلك العقود والصفقات وتزوير للشهادات الدراسية ........وكل ذلك يرتبط بالمال العام، والثروة الوطنية ، والأخلال بالمصالح العليا للوطن وللشعب .ومع كل هذه الأمتدادات الرهيبة للتزوير ، لا تُقبل على الأطلاق ، المبررات الواهية ، والحيثيات التي يذكرها أنصار الدفاع عن المزورين .لقد كتب الأمام أمير المؤمنين على ( عليه السلام ) في عهده العظيم لمالك الأشتر - حين ولاّه مصر :( ولا يكونّن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، لأنّ في ذلك تزهيداً لأهل الاحسان في أحسانهم ، وتدريباً لاهل الأساءة على الأساءة ) والحق مع ما قاله الأمام ( عليه السلام ) فالمحسن ، والمسيء ، لا يستويان لا في حكم الشرع ، ولا في حكم العقل ، ولا في حكم الأخلاق .ولا بُدَّ ان ينال المسيء عقابه، كما انه لا بُدَّ ان يكافئ المحسن .وحين يكافئ ( المسيء ) ويترك ( المحسن ) فتلك هي الكارثة .ولا يمكن للعراق أن يشق طريقه نحو التقدم والرقيّ ، في ظلّ المعادلات الخاطئة ، والحسابات البعيدة عن الصواب .
حســـين الصـــدر
https://telegram.me/buratha