حافظ آل بشارة
الازمة السياسية الراهنة في العراق استغرقت وقتا طويلا ولابد من حل سريع وجذري ومقنع لجميع الاطراف مع اتخاذ ضمانات لعدم العودة الى نزاع مماثل ، الازمة تخللها الكثير من كشف المظلوميات المفترضة لكن خطرها الحقيقي يتمثل بتآكل شرعية جميع الاطراف الداخلة في النزاع ظالمة أو مظلومة وتضعها في موضع المنتفع والمنهمك بمصالحه ، لذا اصبح حل المشكلة واجبا للحفاظ على مصداقية جميع الاطراف المعنية واعادة ارتباطها بالجمهور . يبدو ان اغلب الحلول التي استخدمت سابقا في حل مشاكل مماثلة كانت حلولا غير جذرية وتميل الى التهدئة وترقيد الانفعالات وتجاوز الازمة مؤقتا مع بقاء عوامل الاختلاف والتناحر لتستيقظ مع ابسط الاحتكاكات بين الفرقاء ، لكن الحلول الجذرية تتطلب مستوى عاليا من الصراحة والوضوح وتجنب الكذب ولعل ابرز ما في هذه الازمة شيوع الاكاذيب بين المتناحرين وعدم تراجع طرف او اكثر عن استخدام التزوير وكتمان الحقائق وقلبها ، وهو تعبير عن البعد الاخلاقي للازمة وما بلغه من مدى . وحتى لو تم العثور على مفردات مبادرة لحل جذري فهذا البلد يفتقر لوجود جهات محايدة تحضى بالثقة المطلقة المهنية او السياسية وقادرة على الترغيب والترهيب لتبني مبادرة ، وفي الدول الحديثة والديمقراطية يعد مجلس النواب الجهة المؤهلة لهذا الدور ، اذ يقوم باجراء تحليل لما جرى ويصدر تقريره ، بشرط ان يتخلى كل نائب ولو ليوم واحد عن التبعية المطلقة لحزبه وينتمي ولو ليوم واحد لقضية وطنه والناخب الذي اختاره ، ولو عمل مجلس النواب عبر لجانه المتخصصة بهذه الرؤية واراد ان يصدر تقريرا عن الازمة وخلفياتها ثم آثارها لخرج بعجائب مذهلة، تراجع دور مجلس النواب في هذه الازمة يعزى جزئيا الى ان اعضاء مجلس النواب ليسوا هم الشخصيات رقم واحد في احزابهم وليسوا اصحاب قرار فيها لذا فهم منقسمون في ولاءاتهم وقراراتهم بين الحزب والمجلس ، المراقبون المستقلون الذين يقدمون جهدا فرديا في المتابعة والتحليل ويتصرفون بحياد كامل ويقفون على مسافة واحدة من الاطراف المتنازعة يتوصلون الى نتائج خطيرة ، فقد يجد المراقب بعد التحليل الدقيق ان الازمة اثبتت هشاشة الوضع السياسي ، وعدم قدرة نظام الحكم على فرض سيطرته على البلد كنظام ودولة بعيدا عن اجندات الاحزاب ، اي ضعف الشخصية المعنوية للدولة العراقية الناتجة عن تأخر مأسسة الدولة ودوائرها المختلفة ، بحيث تستطيع ودائر الدولة فرض انظمتها على الافراد والاحزاب وليس العكس ، وبمجرد ان يحدث التراشق الدعائي بين الجهات المتخاصمة تتعطل الاطر الجامعة للدولة فيتلاشى مجلس النواب ويختفي القضاء العراقي وتنزوي القوات المسلحة بهيبتها المعهودة ويذوب مجلس الامن الوطني ويصبح الدستور في خبر كان ، ثم يلجا المتنازعون فورا الى التخندق الطائفي او العرقي ليقدموا صورة مخيفة لبلد يعيش ماقبل الدولة وما قبل الديمقراطية وما قبل المؤسسات ، هذه النتائج تهدم كل مايبنيه العراقيون في مجال الدولة الدستورية الموحدة وتساعد على التقهقر خطوات الى الوراء ، هذا الكابوس يتكرر لأتفه مشكلة ، كما تثبت الأزمة ظاهرة أخرى مذهلة في السياق وهي الخروج بانطباع سيء وصورة هزيلة لبعض القوى الوطنية العراقية ، حيث وضعتها الازمة في دائرة الاتهام بسبب اسخدام طرق مخجلة مثل الكذب والتزوير والبهتان والتقلب في المواقف وتفضيل المصلحة الشخصية واستخدام التهديدات ، فاصبح ظهر البعض منكشفا أمام سهام التسقيط ، والاسوأ من ذلك تصور بعض الساسة ان المواطن العراقي لايفهم ما يدور وانه قابل للاستغفال ، وهم لايعلمون ان الشارع العراقي بدأ يعتقد ان كثيرا من القوى الحالية يجب ان تتلاشى وتختفي وهي مجرد مفردة انتقالية في تاريخ هذا البلد الزاحف ببطئ نحو عصر آخر ، مزيد من العزلة والانزواء والانكماش اصابت بعض القوى الحالية ، والتي قد تواجه أزمتها بخطأ على خطأ عندما تتفتت متحولة الى مجموعة اشخاص كل منهم يحتضن مكتسباته الشخصية مبتعدا عن تنظيمه ، عندها سوف يتضح حجم الفراغ السياسي الذي تتركه القوى المتهاوية والذي لابد ان تشغله مبادرات تنظيمية جديدة مبنية على اسس وحدة الوطن وسيادة الدولة ، كما اثبتت الازمة الحاجة الماسة الى كيانات جامعة قادرة على ان تحظى بثقة الجميع ، كيانات او شخصيات لا تتخندق ولا تهدد ولا تلجأ الى غطاءها الطائفي او المناطقي عندما تدخل في أزمة ، الحاجة الى كيان او زعيم هاجسه العراق ويعمل بقيم مطلقة وسنده الجماهير التي اخذت تفقد الثقة بالجميع ، هناك فراغ زعامة ، التطور البشري في مجال الدولة يسير باتجاه بناء المؤسسات وفرز الشخصية الجامعة وقد تجاوز العالم بناء الدولة الموحدة الى دمج الدول وتكوين التحالفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية القوية ، الدول التي مازالت في مرحلة الانقسام الداخلي يمكن تسقط تحت الارجل في المنظومة العالمية الجديدة ، ولا يمكن للعراق ان يصنف ضمن مستوى الصومال والسودان في هذا السياق ، الشعارات البراقة لا يمكن ان تخفي حقيقة ان الدولة العراقية الحالية عمليا هي اضعف شانا من الدول العربية التي تتساقط تباعا تحت ضغط التظاهرات ، دول عربية موحدة يحكمها الاستبداد ، العراق الحالي دولة غير موحدة يحكمها استبداد متعدد لقوى سياسية كل منها يحمل مخاطر دولة ديكتاتورية كاملة ، لذا يصح القول ان دولة مستبدة موحدة هي اكثر تطورا من دولتنا الحالية المؤلفة من عدة قوى مستبدة ! ولم تتوقف الازمة عند هذا الحد بل ادت الى تنشيط هاجس أو اوهام تبعية كل قوة سياسية الى دولة في المنطقة ، هاجس مدبر سلفا يريد الاقناع بأن العملية السياسية في البلد هي مجرد تجمع لمندوبي دول اخرى في العراق ، تبعية افتراضية تنطلق من مغزى نفسي وليس واقعيا ، وقد بدا المواطن العادي وكانه اكثر ثقافة ومعرفة ونزاهة وعقلانية من الساسة ، فهو يفكر بأفق اوسع ويفهم ما يجري غير متاثر بالحملات الدعائية التي توجه الراي العام كلا من زاويته ، فالجمهور شعر انه مغيب عن هذه الازمة وقد نسيت طلباته وازماته وتصدرت الواجهة مهاترات القوم التي لاعلاقة لها بهمومه بل استخدمت بعض المآسي والمظلوميات الشعبية بطريقة انتقائية دعائيا . هذا تقويم مختصر لنتائج الازمة لذا من الافضل الاسراع في الصلح والتفاهم ، والقضية ليست قضية مكسب حزبي او شخصي لاحد على الجميع النظر في افق اوسع ليدركوا ان الازمة السابقة واللاحقة والمتوقعة خطر يهدد الجميع ومعركة ليس فيها منتصر .
https://telegram.me/buratha