حســـين الصـــدر
لا يُولد أصحاب النزعات الاستبدادية طغاةً مستبدين ، ولكنَّ نزعة الشر فيهم تنمو ،حتى تبلغ الى مراحل الاستبداد والاستئثار والطغيان ، متى ما وجدوا من يصفّقُ لهم على كل حال ، ومَنْ لا يكف عن التملق اليهم دونما خجل أو حياء بالامس ،حين جَبُن أعضاء القيادتين القطرية والقومية عن كبح جُماح صدام ،وتطلعاته المسعورة لامتلاك زمام الأمور بيده وحده ،وتحاشوْا الاصطدام به ،أو إبداء المعارضة له ، تحوّل الى ( دكتاتور ) رهيب ، يحرق الحرث والنسل ، ويعبث بالبلاد والعباد ،بكل طيش وحماقة وغلظه .ولقد دفع أولئك المتخاذلون الثمن قبل غيرهم ، وذاقوا على يديه كؤوس الهوان والموت الزؤام ..!! وتقع على عاتق الاحرار والحرائر ، مهمات ترويض الحكّام ، بالنحو الذي لا يدفع بهم الى مقاصير الدكتاتورية المطلقة .من هنا كان لا بُدَّ من اشاعة ثقافة المواجهة الصريحة للحكاّم بأخطائهم ، وتقصيراتهم ، واخفاقاتهم ، بعيداً عن المجاملات الرخيصة والثناء الكاذب، ومحاولات التسلل الى قلوبهم ،عبر الاماديح الباطلة ،والمبالغات الشيطانية الخبيثة .( يقول ويلز - المؤرخ العالمي المعروف - عن الطاغية (نيرون):انه لم يكن يختلف في طبيعته عن من سواه من البشر ) والمعروف ان نيرون كان محاطاً بزمرة من الجلاوزة والجلادين ، يأتمرون بأمره ، ويسوّغون له ما يفعل ، فكل فكرة سوداء تطرأ على ذهنه يجد حوله من ينفذها ويؤيدها ....ان بذور " النيرونية " موجودة في نفس كل حاكم ، ولكنها تبقى محبوسة بعيدة عن الظهور ، متى ما كانت الأمة الواعية ، عبر علمائها ومثقفيها ، وأدبائها وإعلامييها ، وفنانيها ،وطلابها ،وعمالها ،وفلاحيها ،وجميع طبقاتها مُصحرةً بآرائها ، وناطقة بنقدها الصريح ،لما يمارسه اولئك الحكاّم ويجترحونه من أعمال تلحق بها الحَيفْ ، أو يتقاعسون عن أداء واجبات ،لا يمكن السكوت عن تهاونهم فيها ، عبر النصيحة لهم تارة ،وعبر اللقاءات معهم والوفود عليهم تارة اخرى ،وعبر الاعتصامات والاحتجاجات والتظاهرات السلمية في أحيان اخرى ...ان البرلمان الخالي من المعارضة الحقيقية الصادقة ،قاعة موحشة ،لا تملأ قلوب المواطنين الاّ همّاً ، ولا تجعل الحاكم يحسب حساباً لأحد اننا .لابُدَّ ان نميّز بين موقفين :الأول :الموقف الوطني المخلص الصادق الذي ، يتحرّى صالح العراق وأهله ، ومن هذا الموقع ينطلق ليمارس ضغوطه باتجاه التصحيح ، والتنبيه على أخطاء الحكومة وممارساتها .الثاني :الموقف المغموس بالحسابات السياسية والشخصية ،الغاطسة في مستنقع الأحقاد، والرواسب الدنيئة .ولا شك ان الموقف الثاني مستهجن ومرفوض بكل المعايير الشرعية والوطنية والاخلاقية والسياسية ، لانه يُديف السم بالعسل، ولا يستهدف الاصلاح ،وانما يسعى لأثارة الفتنة ،وزرع الطريق بالألغام ونحن نرفض ، بنفس الدرجة والقّوة ، كل المحاولات السلطوية لتقليص الفرص أمام المواطنين للتعبير عن آرائهم ، في اداء الحكومة وممارساتها وما تتخذه من قرارات واجراءات ...ونرفض ان تؤاخذ الجماهير العراقية الغاضبة ، لما تشهده من تداعيات وتراكمات في التقصير بحقها ، بجريرة من يعتبره السلطويون من المفسدين الأشرار، بين المعتصمين أو المتظاهرين .اننا نشعر بوخز الضمير حين يلاحق بعض المواطنين ، لا لشيء الاّ لأنهم اخترقوا جدار الصمت على ممارسات السلطويين ،ويؤلمنا كثيراً ان تشير بعض التقارير الدولية ،وبعض الصحف الكبرى في العالم ، الى انتهاكات معيّنة لحقوق الانسان في العراق ، لان ذلك يُعّد وصفاً سلبياً للتجربة العراقية الجديدة برمتها ، ويدخل العراق في قائمة البلدان المتخلفة ،ونحن لا نريد له الا الرفعة وعلو المكانة بين دول العالم .وأولى الخطوات التصحيحية : هي إبعاد مَنْ يحجب الحقائق عن صناع القرار ،أو لا يوصل اليهم الاّ ما تطابق مع أمزجتهم وأذواقهم ،وما تضمن الاشادة بهم .انّ الحاكم المخلص لا يُعنى كثيراً بالمتزلفين ، وانما يُعنى كثيراً بالمظلومين والمحرومين والمستضعفين .ومن الخطوات الضرورية المتناغمة مع ما كفله الدستور العراقي للمواطنين جميعاً ، توفير الفرص لكل مواطن راغب بأبداء رأيه والتعبير عما يعتمل في نفسه ، عبر التظاهرات والتجمعات ، دون اية مضايقة أو ملاحقة ، والاصغاء الدقيق لمطالب الجماهير ، مقدمة للشروع بالاستجابة لها والمبادرة الى تنفيذ الممكن منها .ومن الخطوات المهمة في هذا السياق الترحيب بكل ألوان المعارضة السياسية الصادرة عن حس وطني ، وتطلع حقيقي ، للإصلاح السياسي، والاجتماعي .ولا نقصد بالترحيب ، الترحيب اللساني ، فقد مللنا التصريحات والخطب الرنانه التي لم تؤد الى الانفراجات المطلوبة لما تجمّع من بؤر التوتر والاحتقان في الساحة السياسية العراقية .انّ على المسؤول ان يترجم عملياً ،ايمانه بالعمل لصالح المواطنين العراقيين جميعاً ، وليس لصالح كتلته أو الجهة السياسية التي ينتمي اليها .انّ مما يحز في نفوس المواطنين العراقيين كثيراً ، الشعور بأنهم لا يشكلّون عند هذا المسؤول أو ذاك الاّ اصفراراً و ضعت على الشمال ...!!ومِثْل هذا الاحساس بالمرارة ، لا بُدَّ للمسؤولين من تبديده ، بالأدلة العمليّة ،لا التصريحات الإعلامية .إنَّ المليارات من الدولارات التي وَفَرَّتْها لخزانة العراق ، الارتفاعات المستمرة في سعر النفط ، تستطيع ان تنتشل كل العاطلين عن العمل من الخريجين وغيرهم ، اذا ما استُثْمِرت بطريقة علمية بعيدة عن أيادي المهرة من اللصوص والقراصنة .ان يقاء التفاوت الكبير بين دخول المسؤولين وسائر الطبقات الأخرى ،ينذر بأخطار رهيبة لابُدَّ من العمل السريع على امتصاصها وايجاد الحلول الجذرية لها .لماذا لم يأخذ تقليص الرواتب الضخمة التي يتمتع بها كبار المسؤولين في الدولة حتى الأن مجراه الحقيقي ؟وماذا ينتظر المنتظرون ؟إنَّ من أهم الاجراءات التي تعزز ثقة المواطنين بالمسؤولين ،تفعيل محاسبة المفسدين الذين انتهبوا المال العام وانتهكوا حرمة البلاد والعباد .فمتى تتم محاكماتهم العلنية ؟ومتى تقف الحيتان الكبرى ، لا الأسماك الصغيرة ،في قفص الاتهام ؟!!ان التسويف والمماطلة في هذا الجانب ،يعتبر من الادلة على الاصرار على مكافأة الاشرار وتقديمهم على عامة المواطنين الأخيار ...!!وهذه مفارقة كبرى ،يندى لها جبين العدل والانصاف ،ناهيك عما تتركه من أثر سلبي في وجدان الناس .والسؤال الان :ما الذي حصل بعد انتهاء المهلة الممنوحة للوزراء ( المائة يوم ) من الاثار الايجابية ؟ان عامة المواطنين لم يلمسوا الفوارق المتوخاة ، وبالتالي فهم ،يعتبرون المسألة ،ضرباً من ضروب الضحك على الذقون .والى متى يستمر مسلسل الضحك على الذقون ؟!!أهذا الذي يقدّمه المسؤولون الى الشعب العراقي ، المُتعب ،المنهوبه ثرواته ،والمسلوبة راحته عبر طول انقطاع الكهرباء في هذا الحّر الشديد وتردي عموم الخدمات الاخرى ؟أما آن للسلطويين ان يدركوا طبيعة المرحلة ، وطبيعة استحقاقاتها ، وعمق الاستياء الشعبي ، ويبادروا الى علاج الأوضاع بعد وصولها الى هذا الحّد المتأزم ؟
https://telegram.me/buratha