السيد حسين الصدر
أيها المتربع على كرسيّ السلطة :لا أحد أعرفُ بكَ من نفْسِك ، رغم كل المكابرات والادعاءات والمبالغات ، والمناورات للتعتيم على الحقيقة .وهّبْ أنّك بالغتَ في إخفاء جَوْهَرِكَ ،فهل تستطيع حجبَ الواقعِ الى الأبد ؟يقول زهير :ومهما تكنْ عند امرئ من خَليقةٍ وانْ خالها تخفى على الناس تُعْلَمِوالمهم أنّك يجب أن لا تُخدع عن نَفْسك بزائف الاقوال والاماديح ،والكلمات المنمقة ،التي قد يُطلقها الانتهازيون تقرباً منهم اليك ......انهم قد يجعلون منك بَحرْاً متلاطم الأمواج، في عظماته وصفاته في حين أنك لَسْتَ بصاحب شخصية استثنائية في قدرتها ومواهبها على الاطلاق ،وانما أوصلتك الى موقعك ،معادلات وحسابات ما أنزل الله بها من سلطان ، على حساب المعايير الموضوعية ،التي نُحرت على يديْ اللاعبين السياسيين في غفلةٍ من الزمن .ولم يكن يخطر ببال أحد منا ،ان نشهد في يوم من الأيام ،مهزلة تقديم المزورين ( الكاذبين ) على الاكفاء ( الصادقين ) وتُحْبَك فصول المسرحية ويفاجئ بها الجمهور وليكنْ بعد ذلك ما يكون ..!!ولم يكن متصوراً على الاطلاق أَنْ يدخل الى مجلس النواب مَنْ لم يستطع الحصول الاّ على بضع أصوات بينما يبقى الذي حصد الاّلاف منها بعيداً عنه؟كلُّ ذلك بفضل قانون الانتخابات ،الذي فُصّل على طبق مقاسات معيّنة حدّدها المهرة من الحزبيين المتمرسين ،وصاغها العارفون بالطرق الملتوية للوصول الى ما يريدون على حساب العدل والإنصاف وتلبساً بصميم الحَيْف والإجحاف وكل ذلك لا يثير في نفوسهم الاّ الرضا ما دامت النتائج تأتي لصالحهم .ولو أّنَّ شيئاً من ذلك حالف منافسيهم دُونهم لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها ، ولملأوا الافاق ضجيجاً وعجيجاً واحتجاجاً وتَظَلُماً وتَذَمراً ...وهكذا اختلط الخيط الأبيض بالخيط الأسود !!ألهذا المنحدر السحيق تُفضي الأهواءُ والأطماعُ ،ولا يُكْترثُ بما تصطك منه الأسماع ؟!!ولعلّ أمثال هذه المفارقات هي التي دعت الكثيرين الى ان يغسلوا أيديهم من المحترفين السياسيين ،بعد ان خالفوا قواعد الاخلاق وانقلبوا عليها أشد انقلاب .والغريب اننا لا نجد من السياسيين ،من ينبري أمام الملأ ليضع النقاط على الحروف ويكشف عن دخيلة نفسه وعما تتسم به على وجه الدقة من سمات في عملية نقد ذاتي ربما يتبوأُ معها مكانةً رفيعة عند محبي الواقعيّة والشفافية ..!!وربما اغتُفِر له ، بسبب اعترافاته ، كثيرٌ من تجاوزاته وتقصيراته ، واختراقاته للضوابط .ولكنْ هيهات ..!!انهم يهربون من الاعتراف .وانهم بعيدون عن تلك المناقب والأوصاف .انّ الجمهور يحب ان يسمع من المتهالكين على المناصب اعترافا بانهم أصحاب شَبَقٍ سلطويّ وسعي دنيويّ وانهم قصرّوا وانشغلوا بمصالحهم عن مصالحه ... وانهم انغمسوا في الملذات ابان اشتداد الضيق والأزمات .ونقرأ في كتب التاريخ ان بعض الطواغيت الكبار - كالحجاج بن يوسف الثقفي - لم يتوان عن الاعتراف بما انطوت عليه نفسه الخبيثة من أبعاد ، أرعبت البلاد والعباد .ذكر ابن قتيبه في عيون الاخبار ج/2 /ص8 :أنّ عبد الملك بن مروان قال للحجاج :إنه ليس من أحدٍ الاّ وهو يعرفُ عيب نفسه فَعِبْ نفسك ، قال :أعفني ... ، قال عبد الملك -:لتفعلن .قال الحجاج :أنا لجوجٌ حقودٌ حسود .قال عبد الملك :ما في الشيطان شرٌ مما ذكرتَ ولم يخُطأ الحجاّج في تشخيص ذاته ، وقبيح صفاته .ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هو :لماذا سأله عبد الملك عن صفاته ،وأعترف بنزعته الشيطانية الشريره ثم أبقاه واليا يعبثُ بالبلاد والعباد ؟ان هذه المسألة بالذات ،شبيهةٌ بالخُطَب النارية الرنانة ،التي نسمعها من كبار المسؤولين في الدولة وهي تدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور وتتهدد وتتوعد المفسدين واللصوص وأصحاب العقود الوهمية والصفقات المشبوهة وتنعتهم باشد النعوت خسة ودناءة ، ولكننا حتى الان لم نقطف ثمرة واحدة من ثمرات تلك الفورة الصاعده ..!!ورغم ان المسؤولين العراقيين اليوم ليس فيهم من يماثل الحجاج دموية وعسفا وسوء ،الا انهم لم يمارسوا النقد الذاتي خوفا من تبعاته ثم انهم ينزعجون للغاية من النقد المثار حولهم ، ومما يوّجه اليهم من ملاحظات ومواخذات ترتبط بحجم ما تراكم من تقصير وتسويف في مضمار الخدمات .إنَّنا استبشرنا كثيراً بالاستقالات حين بدأت بالظهور بعد طول غياب .وثمة سؤال مركزي خطير ، يطرح نفسه بإلحاح :هل من مؤشر نستطيع ان نحكم من خلاله على المسؤول حُكماً يكشف عن هويته ، وكيف يرى نفسه فهل هو أكبر من المَنْصِب أم انه يرى في المنصب المنجم الذي يوّفر له كل ما يريد من قوة وثروة ونفوذ وبروز على المسرح السياسي والاجتماعي ،ويدّر عليه ألواناً من المكاسب والامتيازات التي لا تتحقق له دون امتطاء صهوة المنصب الرفيع ؟ما هو هذا المؤشر ؟انه باختصار ، المبادرة الى الاستقالة حين تشتبك القضايا ،بنحو لا يعود فيه المسؤول قادراً على إثراء الوطن بالخدمات المطلوبة ، فيعلن توقفه عن تحمل المسؤولية في ظل الوصول الى طريق مسدود .وحين يستقيل يُثبتُ بالدليل أنه أكبر من ان يكون مشدوداً الى ( الكرسيّ ) على كل حال ، ويبرهن على أنه لا يعتريه القلق على مستقبله وأوضاعه مع تخليه عن المنصب وفقدانه لكل الامتيازات المعلومة ما دام واجداً في نفسه من الكفاءة والاخلاص والنزاهة والقدرة على خوض غمار الحياة بعيداً عن الموقع الوظيفي المعلوم .أما الذي لا تخطر الاستقالة بباله ،فانه في الغالب ،قد ساقته الى المنصب ظروف طارئة وعوامل ليست بطبيعية ،ومعادلات محاصصاتية ،فقدّمَتْه على غيره وأزاحت عن طريقه الذين يفوقونه علماً وجدارة ،وخبرة ومهارة ، فضلاً عن اغماض النظر عن كل المعايير الموضوعية الأخرى .ان مَثَلَ هذه الاستقالة انما هو مَثَلُ الضوء الذي بدأ يلوح في النفق المظلم .وليس بكثير على العراق ذلك وفيه من الأبناء البررة رعيل أصيل َيفْتَدونَه بالمهج ويخوضون دونه غمار اللجج .ولا أدري لماذا لا يبادر الوزراء والمسؤولون الذين يُراد تنحيتُهم الى الاستقالة قبل صدور قرارات إقالتهم ؟ان الانسحاب لصالح الأفضل والأكفأ منقبةٌ لامثلبهْ وبَدَلَ ان يتسرب اليأس الى القلوب لابُدَّ ان تظل الامال معقودةً على الوطنيين المخلصين في هذا البلد الكريم .ومهما طال ليل المعاناة فان فجر الاخلاص لابُدَّ أنْ يطلع ، ولا يصح في النهاية الاّ الصحيح .
https://telegram.me/buratha