نزل رجل من سيارته المصفحة وحوله سرية كاملة من الحماية الخاصة وسار بضع خطوات ليقف على شفير قبر جماعي ويخاطب البقايا من عظام رفاقه قائلا :
ما زلت أتذكر وجوهكم المتبسمة رغم عمق الجراح ، وأسمع صوت قهقهة ضحكاتكم التي تتحدى أحزان الزمن الصعب ، ومازلت أشعر بدفيء أكفكم حين كنت أصافحها رغم صباحات الشتاء وبرودة السلاح الذي كانت تقبض عليه طوال الليل ، وما زال في فمي طعم رغيف الخبز الذي كنا نتقاسمه سوية فلم أذق طعاما ألذ منه رغم كل الأكلات العجيبة والغريبة التي أتناولها في أفخم المطاعم العالمية .
لقد جئت لأقف اليوم على شفير قبوركم أيها الأخوة والأحبة أو بالأحرى ( قبركم الجماعي ) الذي دفنتم فيه لأقدم لكم إلإعتذار لأن الحياة الجديدة قد فرضت واقعها علينا . وأقول لكم بصراحة ، إن آباءكم الذين كانوا يستقبلونني في بيوتهم بوجوه باسمة وكرم عراقي أصيل رأيتهم وقد تجاوز بعضهم الثمانين عاما وهم يجلسون على قارعة الطريق يستجدون الناس حفنة من مال أو قطعة من خبز يشبعون منه جوعهم ، وأمهاتكم اللاتي كن يقفن على ( التنور ) ليصنعن لي خبزا ويقدمن طعاما مما تجود به قدورهن رأيتهن اليوم وهن محنيات الظهور بين أكوام النفايات يبحثن عن الزجاجات الفارغة ليجمعنها لعلهن يحصلن على بضعة دنانير ، ورأيت أولادكم يقفون على أبواب المسؤولين بحثا عن أي وظيفة مهما كانت بسيطة ولكن الحراس يطردونهم كما تطرد ( الكلاب السائبة ) ، ورأيت بناتكم يطرقن أبواب القصور العالية والبيوت الفخمة لعل أحدا يريد خادمة لعائلته الكريمة .
أنا أعترف لكم بأن سلطتي تكونت من نزيف دماءكم ومكانتي تأسست من بقايا أشلاءكم وعرشي صنعته من أكوام عظامكم ، فلولاكم لم أكن شيئا مذكورا . لذا أتيت اليوم اليكم شاكرا لتضحياتكم التي رفعتني الى السماء وجعلتني من ذوي الجاه والسلطان ومعتذرا في الوقت نفسه لأنني لا أستطيع أن أقدم لآباءكم ولأمهاتكم ولأولادكم شيئا ، فالحفاظ على منصبي يتطلب مني التعامي عن كل ما أراه وأن أدفن تاريخكم في مقابر جماعية كالمقابر التي دفنت فيها أجسادكم ولا بد لي من مصافحة جلاديكم ومجاملة قاتليكم يا أخوة النضال .
إنا أعترف أن دماءكم أيها الأحبة كانت الشعار الأكبر ولكنها اليوم أصبحت مصدر السلطة والثراء ، فهي الرصيد الحقيقي الذي لم ولن يتأثر بالأزمة الإقتصادية العالمية ولا يخضع لقانون العرض والطلب وأعتقد أن من حقي أن أكون صاحب الإمتياز في التصرف بتلك الدماء الطاهرة لأنني أنا الذي إكتشفت قيمتها وعرفت كيف أتعامل بها في أسواق التجارة وأحولها الى سيولة نقدية وعرفت كيف أناور بها في ميادين السياسة . ومع ذلك ورغم كل ما وصلت إليه مازلت أقرأ سورة الفاتحة على أرواحكم وأقف دقيقة إجلال لكم ، فالسلام عليكم يوم ولدتم والسلام عليكم يوم أستشهدتم والسلام عليكم يوم تبعثون .
https://telegram.me/buratha