حافظ آل بشارة
يعد التصويت مبدئيا على مجلس السياسات العليا في البرلمان تطورا سياسيا لافتا ومدعاة للانفراج النسبي في الأزمة المتواصلة بين بعض الكتل السياسية ، هناك مواقف متباينة حول هذا التطور في الاوساط السياسية فمنهم من تلقى الموضوع بارتياح بالغ ومنهم من اعرب عن رفضه وغضبه وتطيره مما جرى ، وفريق آخر ينتظر النتائج النهائية ليعلن موقفه . لذا يبدو التصويت بداية الازمة وليس نهاية لها ، التصويت المبدئي مهم الا ان الشيطان يكمن في التفاصيل القادمة وهي كثيرة ومعقدة . منذ البداية كان المجلس مختلقا من اجل ارضاء طرف سياسي ضمن خارطة النفوذ ، ويقال بأنه ظاهرة فريدة في النظام الديمقراطي وليس لها شبيه في اي بلد ، فالمجلس يهيمن على السلطات كافة ويضم في عضويته رئيس الجمهورية ونوابه ، ورئيس مجلس الوزراء ونوابه ، ورئيس مجلس النواب ونائبيه ، ورئيس إقليم كردستان، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، وعضوين من كل الكتل الرئيسة الأربعة. ورئيس المجلس يقود هؤلاء وليس من المعقول ان يحضروا عنده لشرب الشاي ثم الانصراف فلا بد ان تكون لديه سلطة عليهم بأي شكل من الأشكال ، فرئيس هذا المجلس هو رئيس الرؤساء او ملك الملوك ، فهو يهيمن على السلطات الثلاث في مظهر اداري غريب يتقاطع مع فلسفة الفصل بين السلطات واستقلالها والتكافؤ في صلاحياتها ، دعاة هذا المجلس ليبراليون بالاسم والادعاء ملكيون في التكوين والتطلعات وهم ينتقدون بقسوة نظام الحكم الاسلامي الحديث الذي يعتمد نظرية (ولاية الفقيه) وما يقتضيه من أشراف للولي الفقيه على مؤسسات الدولة الاسلامية ، لكن هذا المجلس يحاول ان يستعير ولاية فقيه لبرالي غير جامع للشرائط وغير منتخب في تبعيض وترقيع غريب لمعالجة خلافات حزبية وشخصية لا علاقة لها بمصالح البلاد كما انها تخترق الدستور العراقي المسكين حسب تصريحات المعترضين الذين يقول بعضهم كلمة حق يراد بها باطل ، يقول المعترضون على تشكيل هذا المجلس انه يتجاوز على صلاحيات مجلس النواب في المادة الخامسة منه حيث يقدم المقترحات الخاصة بتشريع القوانين ، ويتجاوز على صلاحيات المحكمة الاتحادية في مادته الرابعة في ما يخص مراقبة الالتزام بالدستور من قبل جميع السلطات ، أما المادة الثامنة منه حول العضوية فيه فقد اعتبرت عضويته خليطا غير متجانس يضم جميع السلطات والكتل السياسية ذات الصفة غير الرسمية اضافة الى رئاسة اقليم كردستان ويعد هذا التنوع في العضوية مخالفا للمادة 47 من الدستور التي تنص على مبدأ الفصل بين السلطات بينما كان ممكنا جعل هذا المجلس هيئة وطنية تضاف الى الهيئات القائمة الآن والمسؤول عنها مجلس النواب . عندما يبدأ مجلس النواب البحث في التفاصيل فسوف تبرز عدد من المعضلات التي تعقد الموضوع وقد توصله الى حالة من الانسداد والتوقف ، اللائحة الاولية لتعريف المجلس ووظائفه تعبر عن عملية تجميع فقد اخذوا قليلا من وظائف مجلس النواب وقليلا من وظائف الحكومة وادرجوها في نقاط وفي كل نقطة يمكن ان يبرز خلاف بين المجلس وبين الحكومة او البرلمان ، اي مؤسسة تستمد مصداقيتها من الاعمال التي تقوم بها فاذا وجدت من ينازعها وظائفها فسوف تشعر بالارتباك والقلق ، يضاف الى ذلك مخالفة استحداث اي موقع جديد مع مبدأ الترشيق الذي وافق عليه البرلمان مبدئيا وشيطانه المؤجل مع التفاصيل في وقت لاحق ، فاضافة مؤسسة كبيرة جديدة الى تشكيلات الدولة يتطلب هدرا اضافيا في الاموال والموظفين والمباني وقوات الحراسة والسيارات والكتل الكونكريتية وغير ذلك ، لذا دعا المجلس الاعلى ضمن موقفه بأزاء اقرار قانون المجلس الجديد الى استخدام موظفين من دوائر الدولة للمجلس الجديد وعدم تحميل موازنة البلد اعباء وانفاقات جديدة . من اهم نقاط الخلاف التي ستواجه مجلس السياسات عند اقراره طريقة انتخاب رئيسه حيث يصر ائتلاف دولة القانون على اختيار الرئيس من داخل هيئة المجلس بالتصويت المباشر والاكتفاء بذلك لكن القائمة العراقية ترى ان انتخاب الرئيس بهذه الطريقة يجرده من اي مصداقية دستورية لذا تشترط التصويت عليه داخل مجلس النواب ، خاصة وان مجلس النواب يقر كبار الموظفين في الدولة بالتصويت فكيف برئيس الرؤساء فهو اولى بأن ينال ثقة البرلمان ، وينظر اصحاب المشروع بعين الريبة الى من يدعون الى انتخاب رئيس مجلس السياسات داخل المجلس نفسه معتقدين بأن هؤلاء الاعداء يريدون تمشية المجلس في هذه الدورة الدستورية فقط لالغاءه في المستقبل والتخلص منه وقد يؤدي التصويت على رئيسه في البرلمان الى تقوية صفته الدستورية فيصعب الغاؤه مستقبلا بينما يريد دعاته تحويله الى استحقاق طائفي دائم في المستقبل في اطار ما يسمى بحقوق المكونات . جميع هذه التطورات حول تهيئة مشروع قانون مجلس السياسات العليا والتصويت حوله ثم تصاعد الخلافات بشأنه تبدو تطورات نخبوية تخص الاحزاب والاشخاص وصراعاتهم في اطار السلطة ، فالجمهور لا علاقة له بالموضوع ولم يحمله احد على محمل الجد ، كما ان الشارع يفتقر الى المعلومات والمكاشفة الصريحة بهذا الشأن لذا لم يحظ مؤيدو المجلس الجديد ولا معارضوه باهتمام الشارع ، ولا يعني ذلك اهمال الناس لما يجري في بلدهم بل يعني النضج والوعي العام ، حيث يكتفي الناس بتعليق مقتضب على هذه التطورات مؤكدين بأن المعيار الوحيد لدعم اي مؤسسة جديدة او قديمة هو مدى مساهمتها في توفير الأمن والخدمات ومكافحة الفساد ومكافحة البطالة وازمة السكن ، واي مؤسسة تضاف الى مؤسسات الدولة لا تسهم في القيام بأحد هذه الواجبات هي مؤسسة زائدة عن الحاجة ووجودها خسارة وليس ربحا ، ولا أحد يصفق فرحا لتنصيب رئيسها ولا أحد يحزن او يغضب لخلعه ، مواجهة الشارع لهذه التطورات بهذا المستوى من الاهمال والتجاهل والصمت مؤشر خطير على طبيعة العلاقة القائمة بين الشعب ونظامه الديمقراطي ، وسير كل طرف في واديه المفضل والدليل على ذلك ان بيان حركة الوفاق (اياد علاوي) قال بأن اقرار قانون مجلس السياسات العليا مبدئيا داخل مجلس النواب هو انتصار لجميع الاطراف السياسية ، اي في حدود صراعها على المصالح ، من المتوقع ان يتحول هذا المجلس الجديد الى ساحة جديدة للمعارك الكلامية التي لا اول لها ولا آخر ، الجميع يرحب ببقاء المعارك حول مجلس السياسات كلامية باردة ويحذرون من تحولها الى مفخخات ولاصقات وكواتم ، لتكون منجزات الاشخاص والاحزاب معمدة دائما بدماء الابرياء الذين لا علاقة لهم بالموضوع .
https://telegram.me/buratha