علي محمد البهادلي
تكاد تكون الثورية والخروج عن النظام في أي دولة من الدول هي صفة المعارضين الذين يختلفون مع النظام السياسي الحاكم والذين يقومون بكل ما أوتوا من قوة لتشويه صورة الحاكم حتى لو كانت الطريقة التي يتخذونها في ذلك غير شرعية ويكتنفها الفساد والانحطاط الأخلاقي، أما إذا استطاعت المعارضة أن تتسلم مقاليد الأمور بعد الإطاحة برأس الحكم، فإنها لا تلبث أن تلجأ إلى السكون والمهادنة وإرضاء الأطراف المختلفة معها، وهذا ما يناقض تمام التناقض صفة الثورية التي كانت الصفة الغالبة عليها في مرحلة المعارضة التي مرت بها، إلا أن الذي يستقرئ عمل الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في عهد الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه في الحكم وهي مرحلة معارضته ـ إن صح التعبير ـ فسيجد خلاف ذلك تماماً ، فلقد تميزت مرحلة المعارضة بالنسبة لعلي بسمو النفس ونزاهة الأساليب، فلم يستعمل من أجل إزاحة هذا الخليفة أو ذلك أسلوب الاضطراب السياسي وإشعال الملف الأمني، كما هو حاصل الآن في العراق، وكما يحصل في غيره من الدول، بل كان قمة يربأ بنفسه وخطه العقائدي والجهادي أن يتلوث بمثل هذه الأمور الدنيئة، بل أكثر من ذلك فقد كان الناصح الأمين للخلفاء والمعين لهم على حل المعضلات التي تواجه الدولة الإسلامية حتى قال الخليفة عمر: (( لولا علي لهلك عمر)) وقال أيضاً : (( معضلة ولا أبا حسن لها)) وأكثر من ذلك فقد كان يحارب جنباً إلى جنب مع هؤلاء الخلفاء في خط الدفاع عن حياض الإسلام وحروب الردة وغيرها،وذلك خير شاهد على ما أقول، ولم يمسكه أو يوقفه معارضته لهم في إدارة الدولة وأسلوب اختيار الحاكم فيها.أما مرحلة تسنمه الحكم فكان عليه السلام على العكس من ذلك، فكان كما يقول المفكر الإيراني علي شريعتي من أشد مراحل حياته ثورية، فلم يساوم ولم يهادن من أجل بسط نفوذه واستقرار مملكته!! بل راح يصلح الجهاز الإداري للدولة الإسلامية طولاً وعرضا، وبدأ برؤوس الحكم أي ولاة الأمصار الذين وضعهم الخليفة الثالث ويجتث عناصر الفساد وكان كثير منهم من أقربائه ومريديه، فعزل هؤلاء، وصمم على عزل معاوية بن أبي سفيان على الرغم من التبعات الكثيرة المؤلمة التي جرها هذا الأمر على عدم استقرار المرحلة التي كانت فيها سنوات خلافته(ع) إذ إنه يعتقد ـ كما يذهب إلى ذلك السيد محمد باقر الصدر ـ أنه إذا ساوم معاوية وأبقاه على ولاية الشام، فمن المكن أن تتصور الأمة أن هذه المعركة التي يقودها علي هي معركة من أجل النفوذ ومن أجل الملك والمال والجاه، وليست المسألة مسألة مبدئية يرفض بموجبها تولي الفاسدين وأعداء الأمة أمورهم السياسية والاقتصادية والدينية. ومما يروى عنه(عليه السلام) في حملته التنظيفية لكنس ولاة الحزب الأموي الفاسد من واجهة الحكم في الأمصار الإسلامية أنه قال في القطائع التي اقتطعها الخليفة الثالث لذويه وبطانته(( والله لو وجدته تزوج به النساء ومُلِك [تملك] به الإماء لرددته ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق)) ولما أراد الناس مبايعته بعد مقتل عثمان قال لهم : (( اعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب)) وقد صدق عليه السلام فقد شق طريق الإصلاح في الجهاز الإداري للدولة على الرغم من لوم اللائمين وعذل العاذلين، ومما قال في قضية المنذر بن الجارود، وقد خان بعض ما ولاه من أعماله ( أما بعد فإن صلاح أبيك غرني .. وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رُقِّي إليَّ عنك لا تدع لهواك انقياداً ولا تبقي لآخرتك عتادا تعمر دنياك بخراب آخرتك وتصل عشيرتك بقطيعة دينك،ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر أو يشرك في أمانة أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ حين يصلك كتابي هذا )) ومن كتاب له(عليه السلام) إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وهو عامله على ادشير خرة : (( بلغني عنك أمر إن كنت فعلته أسخطت إلهك وعصيت إمامك، إنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك عليَّ هواناً، ولتخفنَّ عندي ميزاناً)).وهناك الكثير من الكتب التي أرسلها أمير المؤمنين لولاته يصحح فيها مسيرة هذا الوالي، وينصح ذاك، ويعزل في بعضها آخر، ويلوم ويعاتب في البعض الآخر من كتبه بعض عماله، هكذا كان أمير المؤمنين لا تأخذه في الله لومة لائم هدفه تقويم ما فسد من الأوضاع السياسية والاقتصادية فضلاً عن الدينية، فيا ليت من يحكمون العراق اليوم من الذين مر بمرحلة المعارضة ومن ثم تسلموا زمام الحكم أن يقتدوا بسيرة علي في الإصلاح وعدم التغطية على الفساد والمفسدين، وأن يكونوا عوناً للفقراء، حتى يذهبوا وأفواه المساكين تلهج بمدحهم والثناء عليهم والدعاء لهم والدموع تنهمر من عيونهم أسفاً على رحيلهم، كما كان ذلك حاصلاً عند ضربة أمير المؤمنين في مثل هذه الأيام، فقد افتقده اليتامى والأرامل ووقفوا على باب داره محزونين مغمومين، وهل ينسى الإنسان من أحسن إليه!
https://telegram.me/buratha