السيد حسين الصدر
من التاريخ الى الجغرافية العربدات المنكرةقال الشاعر : نسي الطين ساعةً أنه طين حقيرٌ فصال تَيْهاً وعربدْلكل انسانٍ خصائصه وطباعه التي تميّزه من غيره ، وقلّ أنْ تجد متماثلينْ في السمات والصفات ، وانْ كنت لا تعدم أنْ تجد الكثيرين من المتشابهين في الشكل والمظهر .إنَّ التشابه في الخَلْق غيرُ التشابه في الخُلُق .وليس للمظهر ثقل كبير في الميزان ، فكثيرٌ من المشاهير لم يكونوا على جانب ملحوظ من النضارة والجمال ، ولكنّ ذلك لم يمنعهم من تسلق الجبال العالية ، وتربعهم على القمم .والإنسانية عبر مساراتها الطويلة ابتليت بمن ينتفخ ، ويتيه ، ويختال على الناس ، انطلاقاً من اعجاب بنفسه ، أو غرور بمواهبه ومناصبه ،فيطغى ويتجبر ،ويشذ عن النهج السويّ ،ويواصل العربدة .انه يرى نفسه نسخةً فريدة لا تُقاس بها جميع النسخ الاخرى !!فلا يذعن الى الحّق ، ولا يركن الى المنطق .انّه يشمخ بأنفه ، ويواصل مشاويره المتغرطسه التي لا تزيده ً من الله الا بُعْدا ومن الناس الاّ كرها وحقداً .على انّ هذا المنحى الزائف ،لا يقود صاحبه الاّ الى تكريس الجهل ، والانطواء على الهابط من الاوصاف السلبية ،من العناد ،والجحود ، والعقوق ،والعزوف عن الاستماع الى نداءات العقل ،والنصيحة ،والمشورة وفي ذلك من التردي ما فيه .يقول أحدهم أتيهُ على جِنّ البلاد وإنسْها ولو لم أجدْ خَلْقاً لتِهْتُ على نفسي أتيهُ فما أدري من التيه من أنا سوى ما يقول الناس فيَّ وفي جنسي فانْ زعموا أني من الانس مثلُهم فما لي عَيبٌ غيرَ أني من الإنس انظر الى التفاهة كيف تكون انه لَتَيّاهٌ على نفسه ان لم يجد من يتيه عليه !!وأنه يرى في أنتمائه الى الجنس البشري عيباً ..!!لماذا ؟لأن المتكبر التيّاه لا يُعَّد نفسه من هذا الجنس أصلاً ، انه جنس أخر ،لا يماثله أحد ، ولا يشاركه في موقعه ومضمونه سواه !!أليس هذا ضرباً من الجنون ؟ويصف أحد الشعراء واحداً من أولئك المتكبرين فيقول :ما الناس عندك غير نفسك وَحْدَها والناس عندك ما خَلاكَ بهائمويبلغ الصَلَفُ بالمتكبر التيّاه أنْ يَعّد الاخرين من البهائم !!انه الاحتقار الفظيع للأنسانية كلها ...وانه التنكر الصريح لكرامة الانسان ومكانته ....ومثل هذا السلوك ، انما يكشف عن صفحة سوداء قاتمة ، لا ينظر اليها الناس جميعاً الاّ بعين الاحتقار والازدراء ، لما تنطوي عليه من فوقيه واستعلاء ....والغريب أنّ بعض الادعياء ، وهم آخر من يحق له التيه والتكبر يَمْتَشقُ سيف التكبر والاستعلاء حتى لكأنه الجامع المانع في الجمال والجلال والكمال ..!!يقول " أبو البرق " في ( أبي سعد ) التيّاه ، وكان دعيّا في بني مخزوم :لما تاه على الناس شريفٌ يا أبا سَعْدِ فَتِهْ ما شئتَ اذْ كنتَ بلا أصلٍ ولا جَدِّ وإذْ حظك في النسبة بينَ الحرّ والعبدِ وإذْ قاذِفُك المُفحِشُ في أَمْنٍ من الحّدِانّ علة التكبر هنا هي الشعور بالنقص ، والدونية ، وقد روى في الحديث عن الامام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال :{ ما من أحدِ يتيه الاّ من ذِلةٍ يجدُها في نفسه } ومن هنا حذّر الشاعر العربي من التيه بقول : قولا لأحمق يلوي التيه أخدعه لو كنت تعلمُ ما في التيه لم تَتِهِ التيه مفسدة للدين ،منقصةٌللعقل ، مهلكة للعِرض ، فانتبهِ
وأنشد المبّرد :اذا تاه الصديق عليك كبْراً فَتِه كِبرا على ذاك الصديقِ فايجابُ الحقوق لغَير راعٍحقوقك رأسُ تضييع الحقوق ان بعض ضعفاء النفوس لا يحتملون ما يُغدقُ بهِ الله عليهم من نعم ، فيتنكرون لإخوانهم ، ويتكبرون عليهم .يصف الشاعر واحداً من هؤلاء فيقول :تاه على إخوانه كلهم فصارَلا يُعرف مِنْ كِبْرِهِأعاده الله الى حالِهِ فأنه يُحسِنُ في فَقْرِهِان من الهوان والضيعة ان يُدعى على انسان بهذا الدعاء .انَّ المال أطغاه ، ولا يصلحه الاّ الفقر الذي كان قد عاناه ...!!!وَبَدَلَ ان يدعو له أخوانه بالتوفيق ،دعا له بعضهم بالعودة الى المربع الاول حيث الضيق والمكابرة ..!!وكما كانت الثروة سبباً من أسباب التيه ، فان الحقائب والمناصب ربما كانت سبباً لذلك أيضاً .من هنا فقد غيّرت المواقع السلطوية بعض رموزها ، على أخوانهم وأصدقائهم ، بل على الناس أجمعين .يقول احد الشعراء في ذم بعض هؤلاء :وتاه سعيدٌ أَنْ أفيدَ ولايةً وقُلّدَ أمراً لم يكنْ من رجالِهِ وأدبر عني عند إقبال حظّه وغيّر حالي عِنْدَهُ حسنُ حاله
ان المناصب السلطوية لا تدوم لأحد ، وحين يخسر هؤلاء ، بتكبرهم وتجبّرهم على أخوانهم ، أصدقاءهم ومحبيهم ، فقد خسروا الكنوز الثمينة .إنّ العراق الجديد ، قد شهد العديد من هذه النماذج الغريبة ، التي غيّرتها المواقع السلطوية ، فطلّقت أخلاقيتها ومناقبيتها ، واختارت التنمر والتنكر والتكبر ، فتدحرجت الى السفوح ،ولم يعد لها السلوك الممدوح .ويكفي ان نذّكر بما صدع به الكتاب المبين، من مصير المتكبرين ،حيث قال تعالى :{ أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } وقال أيضاً{ انه لا يحب المستكبرين} وروي عن الرسول (ص) أنه قال :{ ان أكثر أهل النار المتكبرون } أنّ المسؤولين لن يجدوا شيئاً أعظم وقعاً في نفوس المواطنين ، من ان يفتحوا قلوبهم ، ويرهفوا أسماعهم ،للإصغاء الى مطالبهم - عبر التماس المباشر ، والحركة الميدانية ،وبذل الجهد المتميز ،والسعي الحثيث لتلبية تلك المطالب .ان هذا التفاعل بين المسؤولين والجماهير ، هو الذي يدفع شبهات التكبّر والاستعلاء ، وهو الدليل العملي على صدقهم في ميدان الخدمة الاجتماعية والوطنية .وأنّ الخدمة الاجتماعية لذخيرة كبرى لهم ويكفي ان يكونوا بها خير الناس .أليس ( خير الناس من نفع الناس ) ؟
حســـين الصـــدر
https://telegram.me/buratha