علي بابان وزير التخطيط العراقي السابق و القيادي في ائتلاف دولة القانون
أيها العراقيون... لنتحدث بصوت عالانتهى المشهد السياسي في العراق إلى تقسيم واضح. الأعضاء الشيعة في القائمة العراقية غادروها وشكلوا العراقية البيضاء. والنواب السنة في الوسط والحزب الإسلامي التحقوا بالعراقية. شيعة العراقية تذمروا مما اعتبروه إقصاء وتهميشا. اما سنة التحالف الوطني الذين تلمسوا طريقا يكسرون به الاستقطاب الطائفي للقوائم الانتخابية فليسوا أسعد حالا، إذ تعصف بهم مشاعر الإحباط و الخذلان، من ناخبيهم أولا الذين لم يمكنوا احدا منهم من الوصول للبرلمان ومن زملائهم في نفس القائمة الذين لم "يهضموا" وجودهم معهم.
الانتخابات التي قيل بأنها ستنهي الطائفية السياسية كرستها بأوضح صورة. وصار لدينا مشهد طائفي بامتياز عرقي بجلاء لا نلوم أحدا في ذلك فمثل هذه المقدمات من ثقافة طائفية. وممارسات طائفية لابد أن تؤول إلى نتيجة كهذه ولا نلوم أحدا مرة أخرى لأنه يجب تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية وأن تكون الاصطفافات معبرة عن الولاءات الفعلية وفي آخر المطاف فأنه لابد من أن نتعامل مع مشاكلنا وقضايانا باعتماد مبدأ الصراحة ووضع النقاط على الحروف لأن أي منهج غير ذلك لا يقربنا من الحل و يزيد مشاكلنا تعقيدا و لن ينتج عنه سوى ضياع الوقت والجهد.. وربما الدماء.
تحدث الكثيرون عن (الوطنية) و(المشروع الوطني) و(لهم كل الإحترام و التقدير) ولكن ما انتهت إليه الأمور هو أن كل سياسي احتمى بطائفته ووقف تحت لافتتها وتبنى قضيتها وتحصن بالولاء لها.
التحالف الكردستاني حسم أمره منذ البداية ورفع لافتته القومية بلا مواربة و لم يتحدث كثيرا عن (المشروع الوطني) إنسجاما مع القضية التي يحملها وهو أعلن منذ البداية ويعلن أن الدولة الكردية المستقلة هي الطموح ولكنها مشروع مؤجل بسبب الظروف ليس إلا.
اليوم لدينا في العراق فريق (يحكم) لكنه لا زال اسير هواجس الماضي. وفريق (لا يحكم) وهو أسير مخاوف المستقبل. وفريق ثالث (يحكم نفسه) ولكنه أسير الأثنين معا. هواجس الماضي ومظلوميته. ومخاوف المستقبل وضبابيته.
أية شراكة في الكون مهما تكن (رمزيتها) و(قدسيتها) ابتداء من (الأسرة الصغيرة) إلى (الوطن بمفهومه المعروف). استمرارها مرهون بتحقيق مصالح أطرافها وحماية حقوقهم. فإذا لم يتحقق ذلك وحصل العكس تعرض مفهوم الشراكة للخطر و بدأ اطرافها تساورهم فكرة (فض تلك الشراكة أو إلغائها). وقد تفلح (رمزية) الفكرة و(قدسيتها) في حجب مشاعر (الفض والإلغاء) لبعض الوقت ومنعها من التداول إلا في الغرف المغلقة. ولكن في آخر المطاف تتلاشى تلك القدسية تحت مطارق الواقع الكئيب الذي تفقد فيه تلك الشراكة مغزاها. وربما لهذا السبب سمعنا اصواتا تتحدث عن (الإنفصال) و(الأقاليم المستقلة) قبل أسابيع ومع استفحال الأزمة السياسية والإجتماعية في بلادنا وبقائها بلا حل ستغدو تلك الأصوات أكثر قوة و جهرا.
من المؤسف أن الدولة العراقية الحديثة و بعد مرور ما يناهز التسعين عاما على تأسيسها تعود القهقرى إلى نقطة الصفر فلا زالت الأسئلة الكبيرة المتعلقة بالوطن والدولة وترتيب معادلاتها وعلاقات أطرافها معلقة في الهواء و بدون إجابات شافية.
هل يبدو الوصف الذي اطلقه الملك فيصل الأول على المجتمع العراقي عام 1921 قريبا من حالة هذا المجتمع عام 2011؟
لقد وصف الملك الذي تسلم لتوه عرش العراق حالة المجتمع بطريقة كنا ننكرها ونعتبرها قاسية و جارحة ولكن اليوم وبعد مرور تسعة عقود من الزمن نرانا نقترب من ذلك الوصف وكأن العراقيين عادوا إلى نقطة التي بدأوا منها. يقول الملك فيصل الأول "أقول و قلبي ملآن آسى... أنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائما للإنتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل شعبا نهذبه وندربه و نعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل.. هذا هو الشعب الذي اخذت مهمة تكوينه على عاتقي).
المجتمع العراقي اليوم منقسم طوليا وعرضيا، طائفيا وعرقيا و بغض النظر عما إذا كان هذا الإنقسام اصيلا وذا جذور أم أنه فرض على العراقيين فرضا من قبل السياسيين والإيديولوجيات المتصارعة، فإننا إزاء واقع خطير ينبغي عدم غض الطرف عنه، التغني بالشعارات الوطنية من الجميع لا يلغي حقيقة وجود هذا الإنقسام. والعلاج لا يكون بالتجاهل وإنما بالتصارح ووضع النقاط على الحروف.
قلت منذ ما يزيد على السنة في البرنامج التلفزيوني (سحور سياسي) بأن (المكونات العراقية) مدعوة إلى تعريف مشروعاتها. وأستغرب البعض منا هذه الدعوة، واليوم نعيد هذه المطالبة لأننا نريد للسياسة و للقادة والأحزاب أن يعلنوا (أجندتهم الحقيقية) لنرى هل هناك فرصة لأن نجد (قاسما مشتركا اعظم) بينها كما يقولوا في الرياضيات. لأن (الأجندة المخفية) هي التي تصنع المشاكل والأزمات ولأننا نفترض فيمن يكون صاحب قضية حقيقية يؤمن بها أن يكون شجاعا و يفصح عن قضيته.
هل قضية الشيعة هي مجرد (رفع المظلومية التاريخية) و(رفع الضغوط الثقافية و المذهبية) أو بتعبير آخر هل هي مجرد (الحقوق الملية) أم أن قضيتهم تتلخص في دولة دينية ونظام إسلامي يتبنى الفهم الشيعي للإسلام و يجسده في تلك الدولة؟
ما هي قضية اهل السنة في العراق، هل هو الخوف من طغيان الطرف الآخر وتمدده بما يضغط على وجودهم و حصتهم في وطنهم؟ هل هي بناء العراق العروبي توجها و انتماء، هل هو الدولة المدنية بمفهومها العصري المعروف أم الدولة الدينية وفق عقيدة أهل السنة؟
الأكراد لم يتعبونا كثيرا في الإفصاح عن قضيتهم وأجندتهم، وإن كانوا مطالبين بأن يقرروا هل شراكتهم مع العراق هي (شراكة عمر) أم محطة مؤقتة على طريق مشروعهم القومي لتأسيس دولة عندما تتبدل الظروف و يهدي الله دول الإقليم للقبول بتلك الدولة.
الإنقسام ..أو التقسيم، ليس في الحدود و الأراضي و البشر.. ولكنه في القلوب والمشاعر والولاء. فإذا ما حصل يكون الإنقسام في الأرض والرايات تحصيل حاصل ليس إلا. و لهذا إذا أردنا أن نعالج الإنقسام في مجتمعنا فعلينا أن نبحث عن جذره الثقافي والإجتماعي لأن العلاج السياسي دونما التطلع إلى الواقع الإجتماعي والثقافي ليس سوى حراثة في البحر.
العراقيون مطالبون بأن يجيبوا على سؤال واضح و محدد. هل يفضلون هويتهم الطائفية والعرقية على هويتهم الوطنية العراقية؟ إذا كان الجواب بالنفي وكان الإنحياز للهوية الوطنية فلنعلم أن لهذا الموقف إستحقاقات والتزامات. وأن ميدان اختباره الفعلي هو الممارسة لا الشعارات. ولا النصوص البلاغية. نحن بحاجة إلى (نعم) صريحة أو (كلا) صريحة. لأن كلا الجوابين يشكلان مخرجا للأزمة الوطنية التي نعيشها و التي تكبر بمرور الزمن. لا نقول منذ عام 2003 ولكن نقول منذ تأسست الدولة العراقية الحديثة. أما إن جاء الجواب بنصف نعم أو نصف لا، فنكون عندئذ قد دخلنا في منطقة الأزمة.
هنالك من يقول أريد العراق كله و لكن بشرط أن تكون لي الكلمة العليا فيه! و أريده موحدا ولكن وفق نموذجي و تصوري. وهناك من يريد عراقا متحدا في الشكل و المظهر ولا يهمه ان كان منقسما في الحقيقة و الجوهر. و كلا النموذجان مرفوضان..و سوف تعمق الأزمة و تجعلها أكثر تعقيدا.
العراقيون أمام (لحظة حقيقة) عليهم أن لا يتجاهلوها أو يقفزوا فوقها. فأما وطن يقوم على الشراكة والعدالة والكرامة للجميع و أما القفز إلى المجهول الذي قد لا يكون (فض الشراكة) أو (التفرق بإحسان) أسوا سيناريوهاته. أما إرساء اسس الدولة العتيدة أو (دويلات الطوائف والأعراق) و(المحميات العراقية) وقد لا يكون الطريق إلى ذلك سلميا ومتحضرا ففي بلد كالعراق لابد أن يكون المسار لتلك الكارثة، كارثيا ايضا ممهورا بالدم بسبب نزاعات الأرض والحدود والثروات. إذا كان العراقيون بقياداتهم ونخبهم وجمهورهم رافضين لهذه السيناريوهات حقا، فزعين فعلا من مبدأ فض الشراكة فليعتمدوا الخيار الوطني، و ليضعوا مشاريعهم الحقيقية لا (المخفية) ويخرجوا منها (بتوليفة) قابلة للحياة متعايشة مع بعضها وليبنوا نموذجا يتفق عليه الجميع ويكون بمثابة (صك تأسيس الدولة العراقية الجديدة) التي يقبل بها الجميع و يتمسك بها. لأن هذه الدولة في واقع الحال لم تقم بعد حتى هذه اللحظة ومن المكابرة القول بغير ذلك
https://telegram.me/buratha