حسين المياحي
سليمان العودة وأسطورة ابن سبأ (2) ذكرنا فيما مضى بعض ملاحظاتنا على ما كتبه الأستاذ سليمان بن حمد العودة في كتابه عبد الله بن سبأ (وهو ليس الشيخ سلمان العودة ، الداعية المعروف، وقد ورد سهواً فيما مضى أنه سلمان بن فهد والصحيح بن حمد) وهذه هي الملاحظات الأخرى: 2 ـ الخلل الكبير في هذه الرسالة هو المنهجية التي قامت عليها واعتمدتها، فهي من الأساس تفترض أن عبد الله بن سبأ موجود حقيقي، وانطلقت من كونه كذلك لتبحث في تفاصيل أحواله الأخرى، وقد اعتمد الكاتب حصراً روايات سيف بن عمر (الكذاب الوضاع المتهم بالزندقة) لإثبات دوره المزعوم في الفتنة. وبهذا وقع الأستاذ ضحية هذا الوَضّاع الكذاب، وضحية أصحاب الأهواء والزنادقة، فالخلاف الرئيس هو في وجود هذه الشخصية من عدمه، أما أن يفترض الكاتب من البداية أنه موجود حقيقي، ثم يذهب باتجاه تفسير النصوص المختلفة في أحواله الأخرى انطلاقاً من ذلك، فهذا خلاف الإنصاف العلمي. فالمطلوب أولاً يا أستاذ البحث في المقطع التاريخي الذي ظهر فيه هذا الاسم، وما نسب إليه، ثم جمع (الأنقاض) التاريخية واستخراج الصحيح منها من ركام الوضع والكذب الذي أقر به وأشار إليه مشكوراً، ثم يأتي دور النصوص الأخرى إن كان في نقاشها جدوى. هذا هو الإشكال الرئيسي والقاتل في الرسالة، الذي يقع فيه الكثيرون عن قصد وعمد، ووقع فيه المؤلف دون قصد منه إن شاء الله. وللكاتب الكريم أن يطالبنا أيضاً ببعض الشواهد على ذلك، فنقول: أ ـ بدأ في الفصل الثاني من الرسالة بنسب عبد الله بن سبأ، وحاول أن يجد له نسباً من بين الأنقاض، قبل أن يجيب عن اللغز في وجوده أصلاً، مما يعني أنه سلّم بوجوده من البداية بلا دليل، وهو ما نرفضه بشدة، ولدينا عشرات الأدلة على اختلاقه، وأنه لا أساس له من الأصل. فلا بد للكاتب أولاً من إثبات حقيقته قبل البحث في نسبه. فلا يمكن أن نسأل عن نسب يزيد الفقعسي مثلاً (وهو أحد مختلقات سيف من الذين روى عنهم أسطورة بن سبأ الملحمية) أو خزيمة بن ثابت (غير ذي الشهادتين)، إذا ثبت لدينا أنه مختلق، اللهم إلا إذا كان (النسب) مسلّماً به منذ البداية، وهو الذي يقودنا للحقيقة، وهو ليس كذلك في ابن سبأ المزعوم. ب ـ حاول جاهداً في البداية الجمع بينه وبين عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني( )، وهو بحد ذاته إشكال كبير، لأنه أحد علائم اختلاق هذه الشخصية، وبعبارة أخرى فإن الأستاذ لجأ إلى عبد الله بن وهب الراسبي رأس الخوارج المعروف النسب والحيثيات، فجعل من نسبه مطية وجسراً يمر من خلاله لتقرير وجود ابن سبأ حقيقة، وذلك أشبه بمن تسأله عن نسب شخص مثلاً، فيقول: نسب جاره ينتهي إلى ربيعة. قال الأستاذ: أما البلاذري وأبو خلف الأشعري فهما ينسبان ابن سبأ إلى همدان، فهو (عبد الله بن وهب الهمداني) و (عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني عند الأشعري)( ).وبالنتيجة فقد قرر هنا أن نسبة عبد الله بن سبأ تجتمع في أصله اليماني، وأن من نسبه إلى همدان أو حمير أو سبأ لم يكن واهماً، لأن الطرق جميعاً (تؤدي إلى روما) كما يقال، بل قرر ضمناً أن اسم أبيه وهب، باعتبار أن البلاذري والأشعري اتفقا في اسم أبيه كما هو واضح.والخلاصة أنه انطلق من هذه المعلومة ليقرر أن أصل ابن سبأ من اليمن، فسواء نسب إلى همدان أو حمير أو سبأ فالنتيجة واحدة، في حين أن المنسوب لهمدان غيره وهو عبد الله بن وهب الهمداني الراسبي، ونسبته إلى حمير انفرد بها ابن حزم دون دليل، ونسبته إلى سبأ عامة تشمل اليمنيين جميعاً، ومنهم كعب الأحبار اليهودي الأصل أيضاً، وغيره من السبئيين. والخطأ القاتل الذي لا يعذر عنه الأستاذ أنه استدل بعد ذلك بكلام سيف بن عمر دون أن يشير إليه فقال: جاء في تاريخ الطبري: كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء. وهذا في الحقيقة كلام (سيف بن عمر الكذاب) نقله الطبري بالسند الذي ذكرناه، ويبدو أن الأستاذ يخجل كثيراً من ذكر سيف، لأنه فضيحة التاريخ، ولأن رسالته انطلقت من سيف ورجعت إلى سيف، فهي مبنية أساساً على روايات مكذوبة وموضوعة. ومعنى ذلك أن الأستاذ لم يخرج من دائرة الإشكال، وهي أن الراوي الوحيد لهذه الأكذوبة هو سيف بن عمر، ومن جاء بعده، ولا حل لهذا الإشكال إلا بالعثور على مصادر تاريخية قبل سيف أولاً، أو عن طرق أخرى تابعت سيفاً فيما قال. أما ما ذكره من المصادر التالية كابن عساكر وغيره فقد رددت ما نعق به سيف، وكانت صدىً له، ولم تأت بجديد. والجدير بالذكر أن ما ذكره من المصادر التالية بعد الطبري اختلفت كثيراً في تحديد هوية ابن سبأ، سواء في ديانته أو موطنه الأصلي ونسبه، وهو ما يعمق الإشكال أكثر.والأغرب من ذلك أن الأستاذ بعد أن استدل لنسبه اليماني بالجمع بين الأخبار الواردة عن ابن حزم والبلاذري والأشعري وغيرهم، بل قرر اسم أبيه أيضاً بناء على جمعه بين الآراء التي يقتضي صحتها جميعاً، عاد (ليخطّئ البلاذري) وغيره في نسبة ابن سبأ إلى همدان، والجمع بينه وبينه الراسبي، قال: (أما من قال: إنه عبد الله بن وهب الراسبي فلعل ذلك وقع نتيجة الخلط بين عبد الله بن سبأ هذا وبين عبد الله بن وهب الراسبي صاحب الخوارج( ). فلا أدري أين يضع الأستاذ قدمه من هذه النقطة بالذات، فإن كان البلاذري خلط بين شخصيتين ولم يتبين له وجه الحقيقية فكيف صح لك الاستنتاج منه أن ابن سبأ من اليمن؟ وإن كان صحيحاً فكيف خطأته مرة أخرى في هذا الموضع، وهو يعرف تماماً أن الراسبي شخص مستقل يختلف عن ابن سبأ الذي يريد إثباته؟ بهذا يكون الأستاذ قد وقع في تناقض فاحش، فمن جهة استدل ليمانية ابن سبأ بكونه همدانياً أو حميرياً أو سبئياً، إذ لا فرق في ذلك، كما أوهم القارئ أنه عبد الله بن وهب الراسبي فدمج بينهما، ثم عاد ليفرق بين الرجلين من جديد. قال بالحرف الواحد: أما البلاذري وأبو خلف الأشعري فهما ينسبان ابن سبأ إلى همدان، فهو (عبد الله بن وهب الهمداني) و (عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني عند الأشعري)( ).فقد جمع الأستاذ بين الآراء وتبناها واستنتج منها يمانية ابن سبأ، باعتبار أن مضمونها واحد، ثم عاد ليقول إن مضمونها مختلف وقع نتيجة الخلط وأن الشخصيتين مختلفتان؟ ! أما الحقيقة فهي أن البلاذري وغيره لم يكونوا واهمين، إنما ذكروا عبد الله بن وهب الراسبي وعدّوه ابن سبأ ليس غير، أما الأستاذ، فلأنه ارتكز في ذهنه شخص حقيقي اسمه عبد الله بن سبأ، صار لزاماً عليه أن يخطئ المؤرخ، بدل أن يخطئ سيف بن عمر المتهم بالوضع والاختلاق، والزندقة.والذي أوقع الأستاذ في هذه الورطة هو سيف بن عمر نفسه، الذي طوّر شخصية عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني، إلى عبد الله بن سبأ، ونسج حوله الأساطير، وأوهم الأجيال أنهما اثنان، فارتكز ذلك في ذهن الأستاذ وغيره، وأثرت فيهم الدعاية بشكل كبير، حتى لجأوا إلى تخطة من يريدون تخطئته من المؤرخين، لتبقى شخصية ابن سبأ في أذهانهم على حالها. فالخلط بين الأسماء من سيف بن عمر، وليس من البلاذري وأمثاله يا أستاذ. وقد قرأت كتاباً آخر لأحد الوهابيين من الأردن، وقد حذا حذو العودة في تخطة المؤرخ لصالح ما يحمله من تصور، فقد صحح إحدى العبارات بقوله: والصحيح هو وابن سبأ، في حين أن نص الرواية هو: وأما حجر بن عدي ... وعبد الله بن وهب الهمداني وهو ابن سبأ... إلخ. وقد خطأ الأستاذ العودة المستشرق المعروف (روندلسون دوايت) للسبب نفسه.وسوف نورد الكثير من الشواهد على الإرباك الكبير الذي ميز رسالته المذكورة التي أشرف عليها ثلاثة من أساتذة التاريخ. يتبع.
https://telegram.me/buratha