حافظ آل بشارة
في ظل التلكؤ المتواصل في ادارة الملفات الملحة ، والانسداد والفوضى تجدد الحديث عن تشكيل حكومة الاغلبية السياسية ، لأن رئيس الوزراء ومحيطه الحزبي والسياسي واقعون تحت تأثير التصور بأن حكومة الشراكة ذات الوزارات الكثيرة والتشريفية لم تعد قادرة على ادارة بلد كالعراق في وضعه الحالي ، حيث تبدو جلسة مجلس وزراء الحكومة الحالية وكأنها دعوة غداء في مضيف كبير ، ولا شرط ان يتمكن المدعوون جميعا من القاء الخطابات ، والمعروف ان مشروع ترشيق الحكومة كان قد اقر مبدئيا في مجلس النواب قبل ايام قليلة واصبح ضمن قائمة التشريعات العراقية ، وتركت معركة التفاصيل الى وقت آخر ، ويبدو ان اتصالات الكواليس انبأت عن معضلات عسيرة ستواجه الترشيق عمليا ، لأن الحكومة الحالية الفضفاضة كانت حلا لارضاء جميع الاطراف لكن الحل تحول الى مشكلة جديدة ، فمع كثرة الوزارات لم يتحسن اداء الحكومة ، ومع كثرة الوزارات بقيت الوزارات الامنية الثلاث بلا وزراء ، ومع كثرة الوزارات ازدادت الخلافات السياسية ، الذين شكلوا الحكومة يشعرون ان الهدف الذي من اجله شكلت هذه الحكومة الغريبة الشكل والمضمون هو التهدئة واقناع القوى الوطنية بالانخراط في برنامج وطني موحد الا ان هذا لم يحصل وهذا يعني فقدان الهدف المرجو الامر الذي يجعل الاستمرار في مثل هذه الحكومة امرا غير مبرر ، واذا قدر لحكومة الاربعين ان تستمر وقتا اضافيا فليس ذلك لانها حكومة مهمة بل لان البديل سوف يتأخر كالعادة وتغطس الارجل في مستنقع جديد ، وكما قال المتنبي (كفا بك داء ان ترى الموت شافيا- وحسب المنايا ان يكن امانيا) . هناك من يرى ان استحالة الاتفاق على الترشيق بين الاطراف المختلفة هي التي ادت الى التلويح بحكومة الاغلبية المتوقعة ، خاصة وان المستفيدين من هذه الحكومة يضمنون اولا تمرير المشروع في مجلس النواب بجمع الاصوات الكافية ، وهم يعتقدون أن معركة تشكيل حكومة اغلبية من الصفر بتحالفات جديدة ستكون اقل هولا من معركة الترشيق التي ستتطلب صورا جديدة من الارضاء وتقبيل اللحى ومنح الامتيازات ، وقد يدوخ رئيس الوزراء في كيفية ارضاء القوى المتضررة من الترشيق بامتيازات من نوع جديد حتى يكتشف منفذو الترشيق انهم لم يفعلوا شيئا سوى انهم قاموا بترحيل الترهل من اروقة الحكومة الى داخل الوزارات والهيئات لينقلوا الفوضى الى اماكن جديدة ، فهم يشبهون ذلك الرجل الذي كان يعاني من وجود حدبة على ظهره وقد وقع في قبضة الجن صدفة فأزالوا حدبته ورشقوه بقوتهم الخارقة وكان له صديق احدب مثله فاخبره بالمعجزة واخذه الى منطقة الجن لازالة حدبته وبعد لحظات عاد اليه صديقه بحدبتين امامية وخلفية واتضح انهم اضافوا اليه حدبة صديقه ليتخلصوا منها ، فالحكومة المرشقة ستكون حكومة الحدبتين بدل الترشيق المفترض ، لذا يبدو التلويح بحكومة الاغلبية السياسية مجددا اما للضغط وتخويف المعاندين وحملهم على التساهل في قضية الترشيق وتقديم التنازلات وارهاب الحركات الصغيرة بانها ان لم تقبل بالترشيق المضر نسبيا فسوف تواجه مشروع حكومة الاغلبية السياسية الذي بطبيعته مصمم لركل كثير من الشركاء واخراجهم من دائرة الدلال والمجاملات واستيلاء القوى الكبيرة على الحكومة لانتاج كابينة مختصرة متخصصة متجانسة سياسيا حسب الافتراض الاولي .
تغيير الشكل وبقاء المضمونيبدو ان صعوبة استمرار الحكومة الحالية ، وصعوبة ترشيقها قد يضع مشروع حكومة الاغلبية السياسية على سكة النقاش الجدي ، وهذا ما التفتت اليه الكتلة العراقية . هناك قرائن تدل على ان العراقية بدأت تنزل من الدرجات العليا للسلم الافتراضي الذي وقفت عليه وهي ترى ان ال 91 مقعدا كانت تؤهلها لرفع شعار انها يجب ان تكون المكلفة قانونا بتشكيل حكومة الاغلبية السياسية وما على دولة القانون ذات ال 89 مقعدا الا التودد لها لانجاز المشروع خاصة وان التحالف الوطني قد لا يفلح في جمع شقيه في هذه الطبخة فيصبح موقف دولة القانون اضعف الا ان العراقية اصبحت الآن اكثر واقعية وقد تدفع باتجاه خيار حكومة الاغلبية السياسية وهي تنادي بتحالف متكافئ مع دولة القانون يسنده التحالف الكردستاني لتوفير اغلبية برلمانية . مع هذه التطورات يبقى السؤال القائم هو : هل تنتج رؤية الاغلبية السياسية حكومة وطنية عراقية كفوءة وفعالة ومتجانسة ؟ والجواب هو سؤال آخر هل تستطيع حكومة الاغلبية السياسية القضاء على الاشكاليات الكبيرة التي افشلت تكوين حكومة عراقية قوية وناجحة حتى الآن ؟ ذلك يتوقف على معرفة تلك الاشكاليات وأهمها : 1- الاختلاف الاديولوجي المستمر بين القوى المشتركة في الحكومة فمنها قوى تؤمن بالديمقراطية واخرى تؤمن بالتفرد وقوى اخرى عائمة ليس لديها انتماء اديولوجي ، وعبر التاريخ ثبت ان الحكومة التي تنجح هي الحكومة التي يتوفر فيها الحد الادنى من التجانس الاديولوجي بحيث لا تبدوا وكأنها متآمرة على بعضها ، واذا كان النفاق السياسي يمكن تمريره في النشاط النقابي او المدني ففي الحكومة لا يمكن ذلك فيجب اولا تحقيق قناعات مشتركة حول مشروع الحكومة واهدافها وهذا المفقود الاكبر في حكومة الشراكة لا يمكن ان توفره حكومة الاغلبية كيف توفره ؟ 2- حكومة الاغلبية السياسية لن تعتمد مبدأ تبديل الوجوه بل ستكرر الشخصيات نفسها التي ارتبطت اسماؤها بايام التراجع الشامل وارتبطت بذكريات غير سارة في الرأي العام مثل الانسداد والتلكؤ والفشل والفساد والارهاب والشهادات المزورة وتفضيل المصالح الفردية والحزبية او الارتباط بالخارج وغير ذلك ، لذا يمكن ان تكرر هذه الحكومة الجديدة الوقوع في الدوامة نفسها . 3- اذا كانت حكومة الاغلبية السياسية المقبلة مؤلفة من تحالف العراقية ودولة القانون فلن يتغير شيء فسوف يكرر الطرفان ازماتهما وخلافاتهما غير المحلولة ، خاصة وان الطرفين يعملان اليوم في اطار تجربة حكومية ونيابية واحدة وهما ايضا يعيشان نوعا من التحالف فما الذي سوف سيتغير ؟ 4- يعاني العراق من أمراض مهلكة مثل فقدان الامن والفساد المتعدد الاشكال والبطالة والفقر وفقدان خطة التنمية الشاملة ، والبعثرة في البرنامج الحكومي وتوقف العمل التنفيذي واستمرار الازمات ، هذه هي المشاكل الحقيقية في العراق فهل تستطيع حكومة الاغلبية السياسية مواجهة كل هذا الموروث ولماذا يفترض البعض ان حكومة الاغلبية السياسية تملك عصا ساحر وتفعل المستحيل ولماذا نفترض ان ما فشلت فيه حكومة الشراكة ستنجح فيه حكومة الاغلبية السياسية ما الذي تغير اذا كانت ستكرر الوجوه والخلافات واساليب العمل نفسها ؟ 5- مع ان الشراكة الواسعة ادت الى المبالغة في احتضان القوى الصغيرة وارضاءها فكان افراطا مضرا ، فسوف تقع حكومة الاغلبية السياسية في التفريط المضر اي تجاهل بعض القوى الوطنية واهمالها ومصادرة حقوقها بعد ان تضيق دائرة المشاركة الى حد بعيد ، وهذا ما يجب الانتباه اليه ، وان كان النظام الديمقراطي يضمن آليات عديدة لعمل القوى والاحزاب فمن لم يجد مكانه في الحكومة وجد مكانه في المعارضة الدستورية ، ولكن يجب ان لا ينسى دعاة مشروع حكومة الاغلبية السياسية ان تحالفاتهم الحكومية المؤقتة ذات المنافع الزائلة يجب ان لا تحطم تحالفاتهم النيابية القديمة التي هي اكثر اصالة وخطورة لانها مستندة الى معطيات التكوين الاجتماعي والمذهبي في البلاد وتوازنه واعتبارات اخرى كالتاريخ السياسي المشترك والمسؤولية الشرعية والعلاقة بالمرجعيات الدينية وغير ذلك من الاعتبارات . هذه الحقائق نستعرضها ليس من اجل بلورة قناعات مضادة لحكومة الاغلبية المطروحة راهنا بل لاجل القول ان مشكلة العراق ليس في شكل الحكومة بل أمور اكثر عمقا وتشعبا وحلها ليس في تغيير الشكل الفني بل يكمن الحل في تغيير المضمون الفكري والاخلاقي والسلوكي والاديولوجي للقوى المشاركة ، والمحذور في كل هذه البدائل ان لا يسعى صاحب الحدبة الى التخلص من حدبته فيضيف الى صديقه الحميم حدبتين .
https://telegram.me/buratha