حسين المياحي
كنا في القسم الثاني من هذا البحث قد ذكرنا الملاحظة الثانية على رسالة الشيخ العودة، ووصلنا فيها إلى الشاهد الثالث مما استشهدنا به على الخلل المنهجي والميزان العلمي الذي اعتمده الشيخ، وهو أنه انطلق من حكم مسبق في ذهنه، وراح يلتمس له الأدلة التي يصنعها ويستنتجها في كثير من الأحيان، وها نحن نكمل الشواهد في ملاحظتنا تلك: ج ـ إن أصل الربط بين (عبد الله بن سبأ) و (ابن السوداء) كان من سيف بن عمر الكذاب، ولا رابط بيهما أبداً، ومن هنا أدخل الشيخ رواية الجاحظ لينطلق منها لمعرفة نسب عبد الله بن سبأ واسم أبيه على وجه التحديد: قال: وهناك من ينسب ابن سبأ من جهة أبيه إلى (حرب)، كما فعل الجاحظ، وهو ينقل الخبر بإسناده إلى زحر بن قيس قال: قدمت المدائن بعدما ضرب علي بن أبي طالب رحمه الله فلقيني (ابن السوداء) وهو (ابن حرب). وهذه الرواية وأمثالها من الروايات المكذوبة، التي وضعها النواصب وقتلة أهل البيت (ع) وشيعتهم، إضافة لما في متونها من الاضطراب والتناقض، فهناك من ذكر في هذه الرواية ذاتها أنه (رجل) وهناك من قال إنه (عبد الله بن وهب)، وهكذا، إلا أن الأستاذ اختار لفظاً واحداً من الرواية فيه (ابن السوداء) وترك الألفاظ الأخرى هرباً من الإحراج راجع . علماً أنها مروية عن الشعبي (وهو ناصبي منحرف عن علي) عن زحر بن قيس (وهو ممن اشترك في جريمة قتل الحسين، وهو الذي حمل الرأس الشريف والعيال إلى ابن زياد، ثم صحب الحجاج الثقفي وأخلص له) وبغض النظر عن ذلك كله يبقى السؤال للباحث الأكاديمي: كيف ربطت بين (ابن السوداء) (وابن سبأ) وجعلتهما شخصاً واحداً؟ لا بد أن تكون إجابتك أن الطبري ذكر ذلك، وعندئذٍ نعود للمربع الأول، ونقطة الصفر، وهو سيف الكذاب. وإلا فإن البحث الأكاديمي لا يتعامل مع (مسلّمات ذهنية) أو (مشهورات لا أصل لها) أو (أحكام مسبقة) أو (أقاويل الدعاية)، إنما يعتمد على الدليل الناضج الناصع الذي يقود للحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك. أما ما استدل به الشيخ العودة من كلام الطبري مرة أخرى، بأنه ينسب ابن سبأ من جهة أبيه إلى (سبأ)، فيقول: عبد الله بن سبأ، فهذا ليس من كلام الطبري يا أستاذ، وأسأل الله أن يكون ذلك خطأ لا تدليساً، فعبارة الطبري بالنص: (كتب إليّ السّري، عن شعيب، عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال: كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء). فالكلام مروي عن سيف، وهو (العقدة) التي لا تستطيعون التخلص منها مهما فعلتم وكتبتم من رسالات ماجستير ودكتوراه وغيرها. ج ـ بعد أن أجهد الشيخ نفسه في نسبة عبد الله بن سبأ المزعوم، وعجز عن ذلك، إذ لا نسب له أصلاً، لجأ إلى الاحتمالات، فقال: وليس بمستبعد أن يكون (سبأ) الذي انتسب إليه عبد الله بن سبأ تغطية أراد بها التمويه على المسلمين. وهكذا خرج من نقطة النزاع بخُفَّي حنين، ولم يعط القارئ النتيجة المرجوة، وفسّر الماء بعد الجهد بالماء، فهو ليس (ابن سبأ) أصلاً، إنما كان ذلك (تغطية أراد بها التموية على المسلمين) وبالتالي رجع الشيخ من حيث أتى، وبقي السؤال قائماً لم يجد له من جواب. وفضلاً عن كون ذلك احتمالاً، والاحتمال يُبطل الاستدلال، فإنه احتمال في غاية السذاجة أيضاً، لأنه يفترض أن الرجل يعمل في أوساط المسلمين بنفسه، ويخفي عنهم اسم أبيه، فهل كان يخشى على أبيه؟ أوما كان الأجدر به أن يخفي دينه لحساسية المسلمين من اليهود؟ أولم يذكر الشيخ بعد قليل أن ابن سبأ المزعوم قال لابن عامر لما سأله عن نفسه: إنه رجل من أهل الكتاب؟ د ـ أما النسبة لأمه فلم يتعدّ الشيخ رواية سيف في الطبري، ولم يخرج منها إلا إليها، ولم يأت بمصدر واحد إلا وهو بعد الطبري، فضلاً عن أن بعضها ذكر (ابن السوداء) فقط دون أن يذكر أنه (ابن سبأ) كما في رواية الجاحظ السابقة.وعاد الأستاذ بعد عجزه عن إثبات ذلك إلى اتهام الرواة والمؤرخين بالخلط في نسبه إلى أمه، كما هو الحال في الخلط في نسب أبيه. قال الشيخ: ومع هذا كله، وكما وقع الخلط والإشكال في نسبة ابن سبأ لأبيه، وقع الخلط، وتصور من غفلوا عن هذه النسبة لأمه أن هناك شخصيتين، (ابن سبأ) (وابن السوداء)، ففي العقد الفريد: منهم (عبد الله بن سبأ) نفاه إلى ساباط، و (عبد الله بن السوداء) نفاه إلى الخازر. ويقول أبو المظفر الإسفراييني: ووافق (ابن السوداء) (عبد الله بن سبأ) بعد وفاة علي في مقالته هذه. ومثل هذا يقع عند البغدادي: فلما خشي علي من قتل (ابن السوداء) و (ابن سبأ) الفتنة، نفاهما إلى المدائن.وقد ذكرنا فيما مضى أمثلة لذلك أيضاً. وبالتالي لا سبيل للأستاذ إلا (تخطئة المؤرخين) واتهامهم بالخلط والغفلة (باستثناء سيف بن عمر) لأنه فوق مستوى النقد. وأخيراً انتهى الشيخ في بحثه عن نسب المزعوم (ابن سبأ) إلى عدم وجود الدليل على حقيقته، وإن لم يصرح بذلك، قال: والذي يرجح من مناقشة الروايات أن ابن سبأ غير ابن وهب الراسبي، وأنه هو نفسه ابن السوداء، والله أعلم.أقول: هذا ترجيح بلا مرجح، أو ترجيح للمرجوح، بل ترجيح المكذوب، فوجود عبد الله بن سبأ طريقه الكذاب سيف بن عمر، ووجود عبد الله بن وهب الراسبي حقيقة، فكيف ترجح الموضوع المكذوب، أو على الأقل الضعيف الذي لا طريق له إلا سيف، على الحقيقة؟ وهكذا يسترسل الدكتور في ذكر الاختلافات في دين ابن سبأ، ويقرر أنه اختلف في كونه يهودياً أو نصرانياً أو من (الفالاشا) ، ثم جمع بين الجميع بطريقته المعروفة وهي أن المسيحية امتداد لليهودية. وأخيراً اعترف صراحة بأن المعلومات عن ابن سبأ لا تروي غليلاً، ولا تهدي سبيلاً. قال: ونحن هنا مضطرون للصمت عما سكت عنه الأولون، حتى تخرج آثارٌ أخرى تزيل الغبش وتكشف المكنون.ولم يبق للأستاذ إلا أن يقول: ويبقى عبد الله بن سبأ (أسطورة ملحمية) حتى تخرج الآثار وتبعث من مقابرها. وحاصل ذلك، وبمنطق العلم: لو تنزلنا فقلنا: لدينا شخص مختلف فيه، الأدلة على وجوده لدى الأستاذ وغيره معدومة، وها هم يخوضون غمرات البحار فيرجعون بخفي حنين، وينتظرون كتباً وآثاراً جديداً ومخطوطات مما أحرق أو أتلف في نهر دجلة، لإثبات مدعاهم. والأدلة على اختلاقه ووضعه قائمة وكثيرة، ولدينا منها العشرات، فكيف نرجح الاحتمال الأول على الثاني؟ اللهم إننا نعوذ بك من الهوى والزيغ وحبائل إبليس.يتبع...
https://telegram.me/buratha