نور الجبوري ||
عندما تهتز قوانين الطبيعة وترتبك المقاييس البشرية ويحدث هناك خرق فوق العادة، نؤمن أن لله مشيئة تقتضي ذلك، وقد جسّد الحسين الثائر عبر وثبته الاستفزازية لأمة غرقت في أتون الظلام والضلال وانحرفت عن سيرها التصاعدي نحو الكمال، عن أبعاد هذه المشيئة بكل أهدافها ومقدماتها ونتائجها، فلم تكن ثورة ارتجالية دون تخطيط مسبق أو تسديد من قوة غيبية قاهرة بل حركة تنويرية عبرت عن ضمير الأديان السماوية والقيم الإنسانية المقدسة فكانت شخصية الحسين شمعة الأديان المشتعلة أبد الدهور تلتهب بأوارها الفوار وتتوقد بحرارة ضارية فلا تنطفئ أبداً ولا تخمد لها على مر السنين بارقة.
ولهذا كان الحسين مهوى القلوب الشفافة وعشق الضمائر الأبية التي به أحلام البشرية لأنه ترك للتاريخ الإنساني كربلاء تلك الجامعة الزاخرة بالأدب الثوري والعقائد الجمة تختزل ثورته أهداف الأديان السماوية على امتداد الأزمنة.
لهذا..
فالحسين لا يخص فئة، ولم يأت من أجل مرحلة عابرة تنقضي بانقضاء الحدث فيمتص الزمان وهجه الساطع آنياً ويتركه مجرد أطلال، فهو جسّد ذروة التكامل العقائدي الذي يصبو إليه كل إنسان كادح سواء مسلم أو مسيحي أو حتى يهودي، ذلك الزخم الهائل من المشاعر الإنسانية المتناغمة مع تطلعات السماء نحو التجرد عن ((الأنا)) والمكاسب المحدودة والدنيا الفانية من أجل حب لا يفتر وعشق لا ينضب ((حب الله)) واسترخاص النفس والجاه والولد كي تستقيم الحياة وفق مثل الحق والحرية والاطمئنان.
فثورة كربلاء لا تحد بزمان أو مكان، فكل مكان تنتهك فيه الكرامات وتسلب الحقوق وتهدر القيم كربلاء، وكل طعنة سيف عاشوراء موجه لكل باغ وطاغ وظلم على مر العصور كربلاء فالمظلومون والمضطهدون والمقهورون من كل المذاهب والبقاع يتوجهون بنوازعهم الفطرية إلى شخص الحسين، ذلك الرمز، البطل، القائد الملهم مدرسة الكرامة والعدل والعزة والكبرياء. فالمسيح عرفوا الحسين (ع) واستوعبوا قضيته الإلهية التي تنسجم مع قيمهم، فهو ثائر من أجل الحق والحق لكل شعوب الأرض، فأحبوه لأنه شهيد الإسلام والمسيحية واليهودية وكل العقائد الإنسانية والأديان السماوية.،
وها هو قسيس مسيحي يقول: ((لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كل بلد بيرقاً ولنصبنا له في كل قرية منبراً ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين)).
وقد كتب الكاتب الباحث ((أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة بين رسالة عيسى (عليه السلام) ورسالة الحسين وظروف نشأتهما وتشابه المحنة وتطلعات حركتهما الثورية على مجتمع متهتك عاث فساداًَ وظلماً، قائلاً في كتابه: ((إن الحسين شرّد وحوصر وأعطش وأهين وقتل وسبيت عياله وجرّد من ثيابه وسلبت حلله كذلك عيسى (عليه السلام) اضطهد وأهين وضفر جبينه بالشوك وحوكم وطعن وبصق عليه وجرّد من ثيابه))
رسالة المسيح كانت على لسان عيسى كما ورد في الإنجيل: ((روح الرب نازل علي لأنه مسحني وأرسلني لأبشر الفقراء وأبلغ المأسورين وإطلاق سبيلهم وأخرج عن المظلومين وأعلن سنة مرضيّة لدى الرب)).
ونداء الحسين كان في خروجه من مكة ((إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي)).
وقتل الحسين (ع) كان نبوءات الرسل والأنبياء على مر العصور إذ توارثوا قضية قتله الدموية في كربلاء ذبيحاً عطشاناً ومداساً تحت حوافر الخيل، فالنبي عيسى (ع) نبّأ عن قتل الحسين ولعن قاتله عندما مرّ بأرض كربلاء وهو يصف أرض الطف بـ((البقعة الكثيرة الخير)) .
ناهيك عن كثير من الحوادث التي تجسد إيمان المسيح بالحسين كقائد قوّم المسيرة الإلهية التي تعاقبت عليها الرسل حتى خاتم الأنبياء محمد (ص) وما كانت ثورة كربلاء إلا بعثة روح في أمة انحلت أواصرها وتلاشت قيمها بفعل الكذب والخيانة والمؤامرات الدنيئة على الإسلام.
كحادثة وثقها التاريخ المنصف عن راهب مسيحي راح يبذل كل ما يملك مقابل تقبيل رأس الحسين الشهيد دون أن يعلم هويته وكان ذلك عند نصب الرأس على رمح إلى جانب صومعته، أثناء الليل سمع الراهب تسبيحاً وتهليلاً ورأى نوراً ساطعاً من الرأس المقدس يقول:
((السلام عليك يا أبا عبدالله))، فتعجب الراهب حيث لم يعرف الحال.
وعند الصباح استخبر القوم فقالوا له ((إنه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه فاطمة بنت النبي محمد (ص))).
فقال لهم:
((تباً لكم أيتها الجماعة صدقت الأخبار في قولها إذا قتل الحسين تمطر السماء دماً)).
وأرد منهم أن يقبل الرأس، فلم يجيبوه إلا من بعد أن دفع إليهم دراهم، ولما ارتحلوا عن المكان نظروا إلى الدراهم وإذا مكتوب عليها:
((وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
ويقول الكاتب أنطوان بارا في معرض حديثه عن رؤية المسيح للحسين ولثورته التحررية:
((رؤيا الفكر المسيحي لشخصية الحسين وثورته هي ذاته رؤيا الفكر الإنساني لها وهذا دليل كاف على إنسانية هذه الثورة، وشخصية الحسين محيط واسع من المثل الأدبية والأخلاق النبوية وثورته فضاء واسع من المعطيات الأخلاقية والعقائدية، ولعنا نتمثل أهم سمة من سمات العظمة في هذه الشخصية قول جده رسول الله (ص)(حسين مني وأنا من حسين)) )) انتهى.
وها هو الأستاذ ((كرم قنصل)) يكتب في مجلة الكلمة السورية عدد 14 لعام 79 في صدد ملحمة كربلاء الفداء في الفكر المسيحي:
((سيرة الحسين مبادئ ومثل وثورة لأعظم من حصرها ضمن الأطر التي حصرت بها وعلى الفكر الإنساني عامة لا الفكر المسلم والمسيحي فحسب، أن يعيد تمثيلها واستنباط رموزها من جديد لأنها سر سعادة البشرية وسر سؤددها وسر حريتها وأعظم ما عليها امتلاكه))
إذن يبقى الحسين مهوى القلوب الحية ومنار الضمائر الحرة لأن الله سبحانه أسبغ على ثورته ألطافاً سماوية توقد في قلوب المؤمنين جمرة ملتهبة لا تبرد بل تتجدد ويشتعل أوارها جيلاً بعد جيل وتلك المعجزة التي شلت مدارك المتحيرين في أسرارها الغيبية وأبعادها الغائية.
ويصدع ذلك الصدى الثوري كلما مس الدين بمساس أو ثلمت العقيدة بثلم.
وها هو جدّ الحسين نبي الإسلام محمد (ص) يهان على مرأى العالم وتنتهك حرمته في عواصم الجهل والضلال متخذة تلك الأقلام المرتزقة منحى عقيم في استثارت الفتنة والأحقاد، هؤلاء شرذمة قليلة، باغية، حاجت عن المسيحية وعن كل دين سماوي يدعوا إلى احترام عقائد الآخرين وصون كراماتهم.
قيا أخوة الإسلام ذودوا عن رسول الله (ص) جد الحسين وفي أيام الحسين المفعمة بطاقة روحية مشحونة بالإيمان حتى لا يداهمنا ما هو أشد وأنكى.
قال رسول الله (ص) : ((إن لقتل الحسين لحرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً)).
· موقع مؤسسة مهدي الأمم الثقافية
https://telegram.me/buratha