محمد البهادلي
عندما نريد أن نبني دولة حقيقية يسود فيها حكم القانون، ولا صوت يعلو فيها فوق صوته ، يجب أن نضع مرتكزات رصينة بإمكانها أن تراقب وتحاسب وتضع حلولاً لأي مشكلة قد تعترض طريق تطبيق القانون، ومن أهم هذه المرتكزات وجود قضاء عادل مستقل استقلالاً حقيقياً، ووجود هيئات رقابية تكون بعيدة كل البعد عن التسييس وعن الحصص الحقائب التي توزع بعد أي دورة انتخابية.لكن الذي يتابع المشهد العراقي برمته ويقرأه قراءة نقدية دقيقة سيجد العكس،فإعادة تشكيل الدولة العراقية بعد 2003 كان سيئاً للغاية، وأستطيع الجزم أن الحسنة الوحيدة التي تحققت في ظل هذه المدة هو عملية الانتخابات الحرة التي بواسطتها يختار الشعب من يدير دفة الأمور في البلاد على ما فيها من علات وهنات، أما سواها فإن الأوضاع جداً كارثية، فلا القضاء يستطيع تحريك الدعاوي وإصدار الأحكام بموضوعية تامة، ولا الهيئات الرقابية مطلقة اليدين في ملاحقة المفسدين وسراق أموال الشعب العراقي، ولا المحكمة الاتحادية قادرة على البت بما في المواد المختلف عليها في الدستور، ويمكن القول إن أغلب هذه المؤسسات تعطي رأيها النهائي بعد اتفاق الكتل السياسية على طاولة مستديرة واقتسام المغانم أو على وفق الطرف الأقوى في المعادلة السياسية، ولا أراني مضطراً لأن أستشهد بقضايا الأحكام التي أصدرها القضاء العراقي بحق المدانين من أزلام صدام أو من الإرهابيين القتلة وتعثر تنفيذ هذه الأحكام أو تبديلها بقدرة قادر، ولا أراني مضطراً أن أذكِّر القارئ الكريم بأحكام الاجتثاث التي صدرت بحق الكثير من السياسيين ومن أبرزهم صالح المطلك وظافر العاني، ومن ثم استثناؤهم من هذه الأحكام، والحقيقة التي لا مناص منها أن الساسة اليوم غير موضوعيين ولا يفكرون بجد في تطبيق القانون، إلا من عصم الله..من هذا المنطلق أريد أن ألج ملف استقالة رئيس هيئة النزاهة أو طلبه التقاعد أو إقالته.على اختلاف الأقوال.. فهيئة النزاهة التي كان أول رئيس لها راضي الراضي قد ترك العراق هارباًــ كما يقول ــ من تهديدات الحكومة ومن بعض المتنفذين في الدولة، ورئيس الوزراء يتهمه بأنه هرب؛ لأن هناك قضايا فساد عليه، وهو الأمر نفسه الذي يتهمه به صباح الساعدي رئيس لجنة النزاهة في الدورة السابقة لمجلس النواب، وقد تبادل الأخير مع رئيس الوزراء التهم في مجال الفساد الإداري، وهذه السجالات لا تنتهي عند حد، أما عندما ترأس القاضي رحيم العكيلي هيئة النزاهة، وبما أنه غير منتمٍ لحزب، لم يكن يطلق الاتهامات على الأطراف في الهواء الطلق وقد تميزت مدة ترؤسه الهيئة بالهدوء النسبي، ولم يكن هناك من يتهمه بتحريك بعض القضايا من منطلق حزبي وأسلوب كيدي لما ذكرنا أنه إنسان مستقل، لكن على الرغم من كل ذلك هناك بعض القضايا المهمة التي أثيرت في ملف محاربة الفساد منها ملف وزارة التجارة وقضية وكيل وزارة النقل وعمليات الاختلاس التي قامت بها زينة الموظفة في أمانة بغداد... كان لهيئة النزاهة دور في تفعيل التحقيق فيها، لكن المدة الأخيرة تبدل الحال من الهدوء إلى الإثارة، لأسباب منها أن الهيئة قررت أنها ستميز قرار القضاء بتبرئة فلاح السوداني وزير التجارة السابق وتقليص ميزانية هيئة النزاهة وطلب رئيس الوزراء ضم الهيئات المستقلة إدارياً لرئاسة الوزراء وكان أخيرها وليس آخرها مذكرات القبض على وزير الدولة لشؤون مجلس النواب ووزير التجارة وكالة صفاء الدين الصافي، وربما الكلام الأخير الذي انتقد به رئيس الوزراء هيئة النزاهة، واتهامه لها بعدم تفعيل بعض قضايا فساد، ومن ثم طلبه تلميحاً أو تصريحاً بتبديل رئيس الهيئة هو الذي حدا القاضي رحيم العكيلي بتقديم استقالته أو طلبه التقاعد، أما الأقوال التي يتداولها الإعلام والتسريبات التي لا يعلم مصدرها إلا الله والراسخون في العلم، فإنها لا تمثل صلب القضية وربما تدخل في إطار الفضائح السياسية والتسقيط الإعلامي، والأمر اليقيني هو ما أدلى به الطرفان المستقيل والآمر بالاستقالة، أي القاضي رحيم العكيلي ونوري المالكي رئيس الوزراء، إذ إنهما متفقان في تصريحاتهما الإعلامية إلى حد ما على ضعف جهود الهيئة في مكافحة الفساد، والتدخلات السياسية التي تحول دون قيام الهيئة بالتحقيق في بعض قضايا الفساد لا سيما ما يتعلق بفساد كبار المسؤولين أو من لهم حظوة عند القيادات العليا في البلد، وإن كانت الأحداث المتسارعة من قبيل تصريحات رئيس الوزراء تجاه الهيئة وطلب الاستقالة وعدم اعتراض رئيس الوزراء على ذلك، كل ذلك يحتاج إلى تفسير وتوضيح، إذ لو كانت الهيئة ضعيفة وفاشلة في مكافحة الفساد، فما الذي دعا رئيس الوزراء إلى السكوت عن ذلك كل هذه المدة، إذاً على مجلس النواب متمثلاً بلجنة النزاهة فيه، أن يستضيف الطرفين؛ ليستعلم الأمر وتكون الصورة واضحة أمام أنظار الشعب العراقي، لأن ملف استقالة رئيس الهيئة ليس هيناً باعتبار الهيئة مسؤولة عن أهم الملفات المرتبطة بعملية التنمية والإعمار، ألا وهو ملف مكافحة الفساد، فيا ترى هل أن رئيس الهيئة كان ضعيفاً وفاشلاً في مكافحة الفساد ويعمل بانتقائية في هذا المجال أم إن رئيس الوزراء أعجبه هذه الأيام أن يعطي حصة لأحد مقربيه لابتلاع ما يمكن ابتلاعه من هذا المنصب وتشكيل غطاء كثيف على عمليات فساد كبيرة لا يريد لها أن تكشف ـ كما يقول البعض ـ؟؟ هذا ما سنتبينه في الأيام القادمة..
https://telegram.me/buratha