صفي الدين الحلفي
في الماضي كانت الثورات التي تحدث في المنطقة عبارة عن انقلابات عسكرية تديرها أجهزة الاستخبارات الغربية الأمريكية وغيرها والمجيء بعملاء ثوريين من أعوانها إلى السلطة فكانت النتيجة وصول أكثر من عشرة زعماء عرب إلى السلطة في أغلبية الدول العربية عبر انقلابات أدارتها أجهزة الاستخبارات الأمريكية وخصوصا في أواخر عقد الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي فكانت النتيجة ظهور أنظمة استبدادية جائرة أدارت ظهرها لشعوبها وانشغلت بمصالحها وصفقاتها وعمولاتها وتوريث سلطاتها لأبنائها لاحقا مستفيدة من مظلة دعم دولية واسعة لها مكنتها من تامين أنظمتها حكمها ومناعتها ضد اية عقوبات دولية تفرض من الخارج . هذا السيناريو وبعد اربعين عاما من توالد أنظمة الاستبداد الوراثية لم يعد قابلا للاستمرار ,حين اشعل البوعزيزي وهو مواطن تونسي عادي كان يبحث عن فرصة كريمة بالعيش وعن مساحة صغيرة في رصيف النار في نفسه بعدما حرمته السلطة الحاكمة من حق العيش بكرامة وإذلاله عبر منعه من البيع على هذا الرصيف الصغير . كانت حادثة البوعزيزي الشرارة التي أطلق منها الشعب التونسي ثورته التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي ,احد اشد الأنظمة البوليسية في المنطقة شراسة وقوة ولم يكن مجديا قمع هذا الاحتجاج الذي قامت به فئات الشعب التونسي التي كان أبناء شعبها يعيشون تحت عهود طويلة من القمع والإذلال .شعر زين العابدين بن علي بخطر البقاء في السلطة ورفض الجيش الوقوف الى جانبه ضد الشعب فغادر السلطة ولم يعد تدخل الغرب ضامنا لبقائه في السلطة كما كان يحصل من قبل ,بل انها امرته بمغادرة السلطة والبلاد ,حيث لم يعد بقائه صالحا للعمل رئيسا مرة أخرى .ما حدث في تونس تكرر في مصر أيضا واليمن وليبيا التي شهدت بدورها انتفاضة دامية مسلحة أنهت وجود القذافي من الحكم واعادت للشعب الليبي كرامته . الغرب ورغبة منه في قطف ثمار الربيع العربي يحاول الالتفاف على نتائج هذه الثورات وتحويلها لصالحه ,حيث المكاسب الاقتصادية والسياسية والصفقات الاقتصادية تحت لافتات الديمقراطية والحرية والليبيرالية وهي الشعارات التي تحاول انظمة الغرب استخدامها كحصان طروادة لاختراق الثورات العربية وإعادة إنتاج أنظمة أخرى بوجوه جديدة موالية للغرب مثل سابقاتها . الانظمة الغربية التي ظلت تلوذ بالصمت طيلة أربعين عاما من حكم الأنظمة القمعية الجائرة التي كانت تصانعها وتهادنها وتقيم معها الصفقات السياسية والاقتصادية وامور (البزنس) وجدت نفسها مجبرة على التحرك لدعم الثورات العربية وتاييدها ومنحها صكوك الدعم وتهافت زعماء الغرب على زيارة المنطقة من اجل تقاسم كعكعات النفط والتجارة وصياغة مستقبلها وفق منظور جديد عبر رافعات الديمقراطية التي تجيد هذه الأنظمة التكلم بها . الانظمة الغربية لم تحتج على أي حاكم عربي كان يسقي شعوبه كؤؤس الذل ويجد الفقراء والمعدمين انفسهم خارج نطاق الرعاية والاهتمام الحكومي ومواطنين خارج التاريخ ويحلمون بمجرد الحصول على رصيف يعيشون عليه ويوفرون منه الأموال لإطعام أطفالهم .كل هذه التجاوزات والانتهاكات كان مسكوتا عنها من قبل انظمة الغرب التي صنعت هذه الأنظمة وجاءت بها الى السلطة في المنطقة تحاول اليوم الالتفاف على هذه الثورات ومصادرتها لصالحها عبر اتفاقيات سايكس بيكو جديدة لتقسيم المنطقة تحت نفوذ هذه الدول ورعايتها . الشعارات البراقة التي تتحدث عن العلمانية والديمقراطية والليبرالية لم تعد نقطة جاذبة لشعوب المنطقة وحركاتها السياسية التي لديها من الهموم والاعباء الكثير والتي هي بحاجة الى معالجة من صميم واقعها وتكييف برامجها السياسية من اجل استثمار التغيير في بناء دول مستقرة ومتعافية تخرج من اثار الماضي الدكتاتوري الذي عاشت في ظله عقودا طويلة والتي تدرك مرامي الغرب ومخططاته في الاستحواذ على ثرواتها وقدراتها وقرارها السياسي واستقلالها الوطني كثمن باهض لهذا الدعم والذي تحقق بدماء شعوبها وتضحياتها . الدرس الليبي يبدو ماثلا للعيان حين يحاول الناتو استغلال هزيمة القذافي من اجل قبض ثمن هذا الدعم صفقات نفطية في ليبيا تصل الى حوالي ثلث حقول النفط فيها من المؤكد ان الشعب الليبي سيرفضها . الحركات السياسية التي قامت بالتغيير سترفض التبعية للغرب وستتجه الى صياغة مشروع وبرامج وطنية خاصة بها تدعم استقلالها ورؤيتها لمستقبل بلادها وليس وفق مناظير الغرب ومصالحه وخططه المشبوهة .
https://telegram.me/buratha