فارس حامد عبد الكريم ـ ماجستير في القانون ـ نائب رئيس هيئة النزاهة سابقاً
إقرار قانون محكم ومتوازن للنزاهة هو حلم كل من عمل أو يعمل في هيئة النزاهة، بسبب الإشكاليات التي أثارتها مرونة وغموض القواعد والنصوص التي جاء بها الأمر 55 لسنة 2004 الذي ينتمي لمدرسة التشريع الانكلوامريكية، التي تعطي لمطبق القانون سلطة تقديرية واسعة، في مواجهة قوانين وأنظمة تاريخية سائدة في العراق تنتمي لمدرسة التشريع اللاتينية التي تعطي للقاضي سلطات منضبطة ومحددة، ولسنا بصدد إبراز مزايا وعيوب كلتا المدرستين، إلا ان لنا الملاحظات التالية بصدد قانون هيئة النزاهة الجديد الذي اقره مجلس النواب الموقر، إلا اننا وقبل إبداء تلك الملاحظات نبين بعض الثوابت المتعلقة بعمل هيئات النزاهة ذات الصلة بالاتفاقيات والتجارب الدولية وما استفدناه من الدورات والمؤتمرات الدولية ذات الصلة:أـ الثوابت: أعمال هيئة النزاهة، أعمال تنفيذية وقانونية في إطار عمل مؤسساتي: من المعلوم ان عمل هيئة النزاهة يتضمن شقين:اولهما ـ جانب تنفيذي، أي متعلق بأساليب وعمل السلطة التنفيذية: وهي مجموعة الإجراءات والخطط والأساليب والآليات والأفكار المبتكرة المتخذة لمواجهة الفساد والوقاية منه وكذلك الوسائل التربوية والتعليمية والإعلامية التي تشجع الفرد على المشاركة في مكافحة الفساد والنيل منه ومن شخوصه وفقاً للأنظمة السائدة. ولا يمكن القيام بهذا العمل الا بالتعاون التام من قبل السلطة التنفيذية، وهذا الجانب هو كما هو واضح جانب وقائي، وهو وفقاً للرؤى الحديثة الراجح وصاحب الأولوية في عمل الهيئات النظيرة على مستوى دول العالم، وبتطبيقه لوحظ انخفاض جرائم الفساد بشكل ملفت للنظر وتصدرت دول لوحات الشرف في النزاهة بعد ان كانت مافيات الفساد تعيث في أرضها فساداً كما هو الحال مع تجربة هونك كونك وماليزيا وسنغافورة بعد تبنيها جملة تشريعات ومعايير للأداء الوظيفي والخدمة العامة لمواجهة الفساد.ومن مظاهر ذلك انخفاض فضائح الفساد على المستوى العالمي بعد ان كانت أخبارها تتصدر صفحات الجرائد العالمية بشكل ملحوظ. وهذا العمل من اختصاص دوائر عامة في الهيئة مثل دائرة الوقاية والشفافية ودائرة العلاقات العامة والتعليم ودائرة العلاقات مع المنظمات.ثانيهماـ جانب قانوني وتحقيقي سابق للعمل القضائي:الحقيقة إن الحكمة من تأسيس هيئات للنزاهة في مختلف دول العالم كما أوصت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، يعود لسببين:اولهما ـ فصل عمليات التحقيق عن عمليات تطبيق القانون (القضاء) وهو ما نص عليه أمر تأسيس الهيئة صراحة بعد ان كان من يتولى أمر جرائم الفساد إبتداءاً وإنتهاءاً هو القضاء أو الادعاء العام (النيابة العامة) حسب الأنظمة القضائية الخاصة بكل دولة، والحكمة من ذلك الفصل حسب الآراء القانونية الحديثة هي إن القاضي وهو يمارس مهامه القضائية وإصدار القرارات والأحكام لا يقوم بدور وقائي مباشر وإنما يقوم بدور علاجي. وثانيهما ـ هي إن مكافحة الفساد ما هو الا عمل مؤسساتي، والعمل المؤسساتي عمل اداري بحت لا يمكن أن يقوم به القاضي، فهو متخصص علمياً ومهنياً في تكييف الوقائع وإصدار الأحكام بشأنها، من خلال فرض العقوبة التي تهدف إلى زجر الجاني وردع غيره، وهذه الميزة هي التي ميزت أعمال القضاء عبر التاريخ، ولذلك كنا نردد دائماً على ان الإصرار على تعيين قاض لرئاسة النزاهة هو مصادرة للمطلوب، على حد تعبير المناطقة، لان السؤال الطبيعي المثار هنا، إذاً لماذا تم فصل أعمال النزاهة عن أعمال القضاء؟ كان يمكن مثلاً أن تنشأ هيئة قضائية لمواجهة الفساد كما هو في بعض التجارب القديمة مثل، نيابة مكافحة الفساد،نيابة الكسب غير المشروع، المدعي العام الاشتراكي وغيرها، التي عملت في إطار مؤسسة القضاء، وفشلت في النهاية في تحقيق أغراضها.ان هذا الجانب القانوني والتحقيقي إنما تقوم به دائرتان عامتان في الهيئة هما الدائرة القانونية التي تتولى أو ينبغي ان تتولى دراسة أضابير ومزاعم الفساد وتقييمها من الناحية القانونية ودائرة التحقيق التي تتولى جمع المعلومات وأعمال التحري والتحقيق فيها.ب ـ الملاحظات على القانون:الملاحظة (1) ـ ركز القانون بشكل ملفت للنظر على صلاحيات رئيس الهيئة، ونصب منه دكتاتوراً على الجميع، وهذا يتنافى مع طبيعة العمل المؤسساتي الذي يتيح قدراً اكبر لرجال الإدارة العاملين في المؤسسة للمشاركة في اتخاذ القرار. فكثرت عبارات مثل لرئيس الهيئة، توجيهات رئيس الهيئة، تعيين وتأديب وفصل منتسبي الهيئة ولم يستثن من ذلك حتى كبار المسؤولين فيها، منح القدم ،المكافئات وصرف متراكم الإجازات الفصل والعزل ، حفظ الإخبارات، وهذه الصلاحيات كلها ذات طبيعة تقديرية شخصية تجسد المؤسسة في شخص رئيسها الأمر الناهي.مجلس لإدارة الهيئة: وكان يمكن تجنب كل هذه السلبيات ومنع الانفراد في اتخاذ القرار في هيئة تقوم بأعمال غاية في الأهمية وتمس رموز الدولة وأركانها ومؤسساتها العامة وذلك من خلال تشكيل مجلس لإدارة الهيئة يرأسه رئيس الهيئة وعضوية المدراء العامين فيها وممثل أو أكثر عن المفتشين العموميين ويتخذ قراراته بالتصويت، وله تخويل رئيس الهيئة عدداً من الصلاحيات ذات العلاقة بالعمل اليومي للهيئة.الملاحظة (2) ـ كان الأمر 55 لسنة 2004 يعطي لمجلس القضاء ترشيح رئيس الهيئة، ولا يعني ذلك اشتراط أن يكون الرئيس من القضاة، فقد خول الأمر الخاص بديوان الرقابة المالية مجلس القضاء اختيار رئيس الديوان وهو من المحاسبين، وهو أمر سائد في التشريعات الأمريكية عند اختيار رؤساء هيئات رقابية وتدقيقية، والحكمة من ذلك، هو ان يقوم القضاة بدراسة ملفات المتقدمين لشغل هذه المناصب بحيادية وبعيدأ عن الصراعات والتدخلات السياسية، وبعد ذلك تحال الأسماء المقبولة لرئيس السلطة التنفيذية لاختيار مرشح واحد من بين المرشحين الذين اختارهم القضاة، والحكمة من ذلك هو إقرار مبدأ الرقابة المتبادلة بين السلطات، فالمبدأ في هذا المقام انه لا يمكن أن يتولى شخص منصب هام في الدولة رغم انف السلطة التنفيذية التي تقود السياسة العامة للدولة، ففي الولايات المتحدة فان تعيين رئيس المحكمة العليا واعضائها، مثلاً، لابد ان يصادق عليه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الأمر في فرنسا بالنسبة لرئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، وهكذا الامر لعديد من دساتير الدول.اختيار رئيس الهيئة: هناك أسلوبين لاختيار رئيس الهيئة الاول: ان يتم الاختيار بإشراك السلطات الثلاث في الدولة:1ـ يقدم المرشحون من رجال القانون والمحامين طلباتهم للترشيح إلى مجلس القضاء، الذي يبت بها بحيادية ويختار بعد دراسة ملفات المتقدمين مجموعة من المرشحين إلى مجلس الوزراء.2ـ يتولى مجلس الوزراء اختيار عدد محدود منهم ليقدمه إلى مجلس النواب.3ـ يتم التصويت على المرشحين من قبل مجلس النواب.الثاني: انفراد مجلس النواب بتعيين رئيس الهيئة، وقد أخذت بعض الدول بهذا الخيار ومنها ماليزيا بهدف عزل السلطة التنفيذية عن أعمال مكافحة الفساد ، إلا ان هذا الأسلوب أثار عند التطبيق الملاحظات التالية:أـ إن اختيار وتعيين رئيس الهيئة سيتم من قبل الكتلة الأكبر أو الحزب صاحب المقاعد الأكثر في مجلس النواب، وهي عادة من تشكل الحكومة، ثم يطلب منه بعد ذلك كشف الفساد الحكومي فيها!!!! اما الأقلية المعارضة في البرلمان فلن يكون لها أي دور في تعيينه وعزله وقد تمتد يد رئيس الهيئة لها ليحرجها وخاصة في أوقات الانتخابات.ب ـ من المعروف إن السلطة التشريعية في أية دولة ديمقراطية هي المحل الأمثل للتجاذبات والصراعات السياسية، وهذا يجعل من تعيين رئيس الهيئة عملاً سياسياً بحتاً.وفي العراق بالذات سيكون التعيين محلاً للتوافقات السياسية فضلاً عن المحاصصة.الملاحظة(3) ـ اغفل القانون جانب الصلاحيات الوقائية: الوقاية بشكل عام ما هي إلا عمل مخطط يراد به الإعاقة الكاملة أو الجزئية لوقائع شاذة أو مرضية متوقعة الحدوث في بيئة اجتماعية معينة. كوضع خطط لمنع انتشار مرض معين أو الآفات الزراعية وغير ذلك، أما في نطاق علم الإجرام فان الوقاية من الجريمة تعني وضع الخطط الملائمة لإعاقة بروز جريمة أو جرائم معينة تنتشر في بيئة اجتماعية معينة، وعلى ذات السياق فان وضع خطط وقائية لإعاقة بروز ظاهرة الفساد كظاهرة جريمة بات في الوقت الراهن من أولويات عمل الأجهزة الرقابية وهيئات الرقابة، بل ان بعض هيئات النزاهة في بعض التجارب الدولية تعتبر ان قسم الوقاية والشفافية من اهم أقسامها، وتقوم هذه الأقسام بوضع الحلول الوقائية لكل وزارة أو مؤسسة على حدة مستعينة بمختصين في مجال القانون والعلوم الأخرى ذات العلاقة ومستندة إلى دراسة كل حالة فساد ووضع الخطط التي تلائم مكافحتها.وعلى سبيل المثال إن بعض الدول تبنت فكرة إنشاء دائرة خدمة المواطن التي تتولى مهمة استلام معاملات المواطنين ويقوم موظفوها بمراجعة الدوائر المختصة لانجاز تلك المعاملات ثم تطورت الفكرة إلى أن تضم هذه الدائرة مكاتب للوزارات المختلفة تتولى انجاز ما يمكن انجازه مباشرة وإذا تطلب الأمر إجراءات داخل الوزارة المعينة فإنها تتولى القيام بذلك وفي كل الأحوال لا توجد صلة مباشرة بين المواطن وموظفي هذه الهيئات وفي الدول المتقدمة بات انجاز معاملات هذه الدوائر عن طريق البريد والحكومة الالكترونية التي تربط جميع مؤسسات الدولة بشبكة عنكبوتيه تتولى انجاز المعاملات وتدقيق الوثائق المقدمة من المواطن وسلامتها من التزوير والانتحال عبر تلك الشبكة وخلال دقائق معدودة.ومن تطبيقات ذلك ما جرى في الهند في ما يتعلق ببيع الأسمدة لملايين لفلاحين الهنود ففد كانت إجراءات المعاملة محل فساد ورشاوى ومحسوبيات كبيرة وقد يفوت الوقت على الفلاح فلا تصله الأسمدة إلا بعد الحصاد، فتم إتباع أسلوب تقديم المعاملة ودفع الأجور عبر الانترنيت لتأخذ المعاملة تسلساً وتاريخياً يحدده الحاسب الآلي للدائرة دون تدخل الموظفين لتصل الأسمدة إلى المزارع في باب مزرعته في الوقت المحدد بالضبط. وبعد أن كانت المعاملة تستغرق ثلاثة أشهر لا يتعدى الوقت ألان سوى دقائق مع نظافتها من الفساد.ان الأفكار الوقائية متنوعة ولا يحدها نطاق أو حد معين ودائماً هناك أفكار جديدة مبدعة وخلاقة مادامت هناك رغبة صادقة في خدمة أبناء الشعب وإنقاذهم من براثن الفساد وأهله.************farisalajrish@yahoo.com
http://farisalajrish.maktoobblog.com/
https://telegram.me/buratha