حيدر محمد الوائلي
في البدء كانت الخليقة... واقتضاء حكمة الله سبحانه أن يختار الأرض التي هي قطرة في بحر الكون الهائل لتكون محل خلافة الله، فنزول النبي ادم (ع) للأرض ليكون خليفة الله فيها، فكانت أول بقعة أرضٍ وطئها ليخلف الله فيها (ميزوبوتاميا) (Mesopotamia) (بلاد مابين النهرين) (بلاد الرافدين) (اراك) (أرض السواد)، كلها مسميات حضارية تشير الى عراقة (العراق)...وفي نفس هذه الأرض كانت أول حضارة عرفتها البشرية (الحضارة السومرية) جنوب العراق ولمحافظة (ذي قار) ومدينة (الناصرية) تحديداً الحصة الأكبر في بقاياها وآثارها حيث كانت مسرحاً لإبداعات وابتكارات وأمجاد وآثار الحضارة السومرية والتي لحد الآن بقيت مهملة وغير مدروسة وغير منقبة بالشكل التي هي عليه حضارات أخرى جاءت بعدها بمئات السنين بل آلاف السنين وهي اليوم معلم سياحي وثقافي يدر على تلك البلدان سمعة ثقافية وعوائد سياحية، بينما المكتشف من الحضارة السومرية في ذي قار هو قليل بل قليل جداً، حتى قيل أنه (5%) فقط...!!
في ذي قار محل مولد أبو الأنبياء إبراهيم الخليل (ع) وآثار بيته شاهدة لليوم حيث نزلت في أرضها الرسالة الحنفية والتي منها انبثقت رسالات الله للعالم (اليهودية والمسيحية والإسلام)، ويعرف مكان بيت النبي إبراهيم (ع) في الإنجيل بإسم (اور الكلدانيين)، وفي التوراة وُصِف بالمكان الذي رأى النبي إبراهيم النور فيه. ولا تزال بقايا بيته قائمة ولليوم في مدينة الناصرية قرب بقايا زقورة اور العملاقة، وقد أعيد ترميم البيت تمهيدا لزيارة كان البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني) ينوي القيام بها العام 2000، ولكن ألغيت الزيارة لاحقاً لأسباب غير معلنة.
في ذي قار أول حضارة عرفتها البشرية وعمرها أكثر من (6000) سنة (الحضارة السومرية)... وفي ذي قار أول كتابة وخط وتدوين عرفته البشرية (الخط السومري) (الألواح السومرية)...وفي ذي قار أول نظام سياسي برلماني (النظام السومري)...وفي ذي قار أول نظام تعليمي (نظام التعليم السومري)...وفي ذي قار إكتشفت الحضارة السومرية أن الشمس مركز تدور حولها كواكب كما هو واضح في لوح سومري موجود في متحف برلين، وهذا الأكتشاف لم يعرفه علماء أوربا إلا قبل (300) سنة مضت حيث كانوا يعتقدون قبل ذلك أن الأرض مركز الكون، فالسومريون سبقوهم بـ(6000) سنة...!!
وفي ذي قار إكتشفت الحضارة السومرية المجموعة الشمسية حيث في اللوح المشار إليه سابقاً يوضح شمس وحولها تسعة كرات تمثل تسعة كواكب، والغريب أن العالم اليوم بجميع تطوره لم يكتشف الكوكب التاسع للمجموعة الشمسية إلا في سنة (1930) وهو كوكب (بلوتو) وسموه على أسم من وجده العالم (بلوتو)، ولكن سبقهم السومريون لذلك قبل (6000) سنة...!!
وفي ذي قار إكتشفت الحضارة السومرية كوكب عاشر للمجموعة الشمسية واضحاً قرب الكواكب التسعة بمسافة في اللوح المشار إليه سابقاً وقد أشار اليه السومريون بأسم (نيبيرو) والغريب أن هذا الكوكب لم يتم الحديث عن وجوده إلا مؤخراً في حوالي العام (2003) عندما إكتشف وجوده عالم فلكي من معهد بحوث فلكي في ولاية كاليفورنيا الأمريكية وأطلقوا عليه اليوم نفس الأسم السومري (نيبيرو) (Nibiru) أو الكوكب المجهول أو ما يعرف بـ(Planet X) (الكوكب أكس)...!!
وفي ذي قار كان أول حديث عن وجود حياة في كواكب أخرى، كما يشهد بذلك الألواح السومرية الموجود الان في متاحف العالم حيث نصّت على نزول (الانونانكي) وهم أناس جاءوا للأرض من كوكب (نيبيرو) المشار اليه سابقاً وقد تعلموا منهم وهم بذلك سبقوا وكالة (ناسا) ونظرياتها حول هذا الموضوع قبل (6000) سنة...!!
تصوروا أن كل ما سبق حول الفضاء والكون في لوح سومري واحد فقط موجود في متحف برلين الآن، فكيف بالآلاف المؤلفة من الآثار الموجودة تحت أرض ذي قار اليوم وهي غير منقبة وغير مكتشفة بعد...!!
في ذي قار كانت أوائل محاولات تدوين التاريخ (تدوين التاريخ السومري ووقائعه وسيرته على ألواح طينية)... وفي ذي قار أول تكتيك حربي (استخدام الخيول والرماح والعربات الحربية السومرية)... وفي ذي قار أول تشييد هندسي إبداعي (القصور السومرية)...وفي ذي قار أول قوس هندسي عرفته البشرية على شكل حرف (U) باللغة الانكليزية مقلوباً وهو قوس باب قصر الملك (شولكي) قرب زقورة اور، وليس كما يدعي الرومان أنهم أول من شيد القوس الهندسي، فحقبة تشييد قصر شولكي كانت قبل سنوات طويلة من حقبة الرومان...
وفي ذي قار حضارة سومرية كان فيها أول سوق تجاري منظم للبيع والشراء وتدوين السلع والواردات والصادرات، ووجد في بقايا ألواح سومرية آثار بصمات أسفل كل لوح بما يعتقد أنهم كانوا يمهرون اللوح ببصمة اليد كتوقيع، ويمسحون اللوح بأن يرطبونه بالماء ليدونوا عليه من جديد.
وفي ذي قار محل أول سباق رياضي عرفته البشرية وهو سباق أور الملكي قبل (4500) سنة حيث كان عبارة عن متسابقان يتباريان في الركض في حلبة سباق مخصصة لذلك...وفي ذي قار ابتكر السومريون نظام الساعات لحساب الأيام بواقع (24) ساعة لليوم و(60) دقيقة للساعة...وفي ذي قار إبتكر السومريون نظام حساب قطر الدائرة البالغ (360) درجة، ولازال هذا القانون لليوم كما إبتكره السومريون قبل (6000) سنة...
وفي ذي قار أول قانون دستوري مسنون وسبق قانون حمورابي البابلي ومسلته وهو قانون (أورنمو) أحد ملوك حضارة اور، ولكن يبقى قانون حمورابي أكمل وأكثر تميزاً...
وفي ذي قار زقورة اور العملاقة (إينا زيكورات) التي لا تزال شامخة لليوم منذ آلاف السنين وهو بناء حجري متدرج مخصص لآلهة الشمس السومرية (إنانا)، وتحيط بالزقورة مواقع أثرية منها (اريدو) و(العبيد) و(الدحيلة) و(لارسا).هذه الزقورة التي هي من أعلى المباني في مدينة الناصرية اليوم رغم أنها قد شيدت قبل الاف السنين فالمبدعين يومها كانوا مبدعين، ولم يستطع أحد (سابق ولا لاحق) في الوقت الحاضر من تشييد بنيان يضاهيها إرتفاعاً وبراعة وإبداعاً وتصميماً ماعدا المستشفى العام في ذي قار وقد بناه الكوريون قبل عشرات السنين...!!
في ذي قار الحضارة السومرية التي كانت الأولى في الموسيقى والشعر والأدب والفنون التشكيلية من فخار ورسم ونحت وفنون العمارة، وفيها أول عزف موسيقي وآلة موسيقية وهي القيثارة السومرية، والتي ترتبط بالمقبرة الملكية السومرية في أور، وهي احد مقتنيات المتاحف العالمية اليوم، وواحدة من مفردات جعلت بلاد الرافدين تسبق اليونان والرومان بثقافاتهم قبل الاف السنين...
في ذي قار حضارات (سومر) و(اور) و(لكش) و(أريدو) وغيرها من أمجاد لأوائل الحضارات وسوابق الإبداع والتي لم يتم تنقيبها بشكل صحيح وكامل ومدروس ولم يتم على الأقل تجسيمها وإعادة تصويرها وهيكلتها من جديد لتكون معالم سياحية وثقافية تدر على محافظة ذي قار الشيء الكثير، ولم يبلغ ما تم إيجاده من آثارها سوى (5%) فقط على ما يقال...!!
في ذي قار الكثير والكثير مما لا يسعني في هذا المقال المختصر ذكره جميعاً فأهل الاختصاص أعرف...من قول لعالم الآثار (جيم مارس) (Jim Marrs): (إن مجموع ما أخترعه وأبتكره السومريون لا يصل إليه مجتمعنا المعاصر، وبالتالي يجب أن نتساءل من أين جاءوا بكل هذه الأفكار)...؟!تصوروا...!!
في ذي قار أهوار مائية عملاقة موجودة منذ آلاف السنين، وتحتوي على حيوانات ونباتات كثيرة ومنها النادر...
في ذي قار رغم كل هذا التاريخ الذي لو وُجد (بعضه القليل جداً) في دولة أوربية أو أمريكية أو آسيوية أو أفريقية لجعلت منه رمزاً وطنياً وبنت لتخليدها متاحف ومكتبات ومراكز بحوث لحفظها، وترى المنقبين والدارسين يحجون إليها جيئة وذهابا، ولكن في محافظة ذي قار كلها لا يوجد سوى متحف وحيد، مجهول، فارغ، مهمل، مهجور...!!
آثار ذي قار منتشرة في متاحف العالم في برلين ولندن وباريس وغيرها، ولم يطالب بها أحد ولليوم...ساهم النظام السابق وبشكل مبرمج في تهريب آثار العراق عن طريق حماية الرئيس السابق صدام الشخصيين خصوصاً (روكان وأرشد) ومن ثم بيعها في السوق السوداء ولا يوجد من يوقفهم أو يحاسبهم يومها فهم كانوا الحاكمين المطلقين على رقاب العراقيين ومن يتكلم يسجن أو يعدم...ولم يغير النظام الحالي (المنتخب) ولم يساهم في نهضة الواقع المزري لقطاع الآثار والسياحة في العراق ككل ومحافظة ذي قار بالأخص ولم يحركوا ساكناً في هذا الموضوع ولربما يبقى الوضع على حاله لسنوات وسنوات...
بقيت آثار ذي قار وحضاراته شاهداً على سوء حاله وواقعه فلا راحة لشعبه ولا خدمات تنقذ واقعه الأمر وأكيد فلا سياحة، فلقد ساهم النظام السابق بشكل كبير في هذا الإهمال والتقاعس والخراب والنظرة العنصرية الطائفية للجنوب ومحافظة ذي قار بالأخص لمعارضتها إياه طوال سنين حكمه، فلم يشفع لها ذلك بشيء لمّا سقط النظام السابق، ولم يصلح النظام الحالي كثيراً بل منهم من زاد فساد النظام السابق فساداً أكثر...لو كان جزء صغير من آثار وحضارات ذي قار في دول أخرى لعاشت وازدهرت على عوائدها السياحية فقط، فكيف بالنفط والغاز والقار وغيرها من خيرات الله في أرض ذي قار وبغزارة...!!
تخيلوا أن كل ذلك في ذي قار وبالرغم من ذلك ولا كأن هنالك حضارة فيها فقط في شعارات وأختام بعض المؤسسات والدوائر في المحافظة لا أكثر ولا أقل...
تخيلوا أن يوجد في سهل (ساليسبري) بمقاطعة (ويلتشير) جنوب غرب إنكلترا أحجار مبعثرة تسمى (ستونهنج) (Stonehenge) حيث يرجع وجودها لتاريخ ما بعد الحضارة السومرية بكثير ولا يوجد لا آثاري ولا عالم يعرف ماهيتها ودلالتها ولا يعرفون ما هو أصلها ولا الحقبة الزمنية التي شيدت فيها التي خمنوها تخميناً، فقط نظريات مختلفة حولها وحول وجودها، وبعض العلماء بالحدس تصورها أنها كانت وفق حدسه مركزا احتفاليا أو دينيا... وبالرغم من ذلك فلقد اهتمت الحكومة البريطانية بها كثيراً وأولتها إهتماماً جماً، وهي أحد المعالم السياحية الأثرية المهمة في بريطانيا، وصور تلك الأحجار منتشرة بكثرة حول العالم رغم انها أحجار عادية غير معروفة الدلالة والمعالم فهي مجرد أحجار (حوالي ستة) مصطفة حجر جنب حجر.
وفي ذي قار حضارة وعمارة وآثار واضحة المعالم والدلالة والكثير من بنيانها الأثري لا يزال مطموراً تحت الأرض وبعضه الآخر واضح للعيان وبالرغم من ذلك لا يوجد أدنى اهتمام بها ولا بالتسويق لها سياحياً ولا نشر النشرات باللغات المختلفة للترويج لها ولا إبلاغ السفارات العراقية في العالم لنشر المنشورات حولها، ولا الاتفاق مع قنوات عراقية وعربية وأجنبية لإنتاج برامج وثائقية متطورة لسبر أغوارها، وتوضيح معالمها، ولا بناء المرافق السياحية والفندقية والتجارية قربها وحولها وفي المدينة لتصبح محطة لجلب للأنظار...كل ذلك لا يوجد...!!فحتى لو حصل وجاء السائحين والمنقبين وعلماء الآثار أفلا يستلزم وجودهم وجود فنادق عصرية ومطاعم متنوعة تقدم مختلف الأطعمة ومراكز تسوق عصرية ومطار ووسائط نقل سياحية ومترو ومرافق خدمية ومتنزهات وحدائق وشوارع ونظافة لكي يعكسوا صورة جميلة عمّا رأوه، فكيف لو عرفوا أن في الناصرية كلها فندق سياحي وحيد بطابقين...!!
كيف لو عرفوا أن جزء كبير من الأراضي الأثرية السومرية التي تجاور زقورة أور وبيت نبي الله إبراهيم (ع) تابعة لوزارة الدفاع العراقية ومبني عليها قاعدة عسكرية جوية عملاقة جداً وبجنبها مقر كبير لفرع قيادة الفرقة العاشرة للجيش العراقي وبجنبها السجن الإصلاحي ومركز التدريب العسكري...!!
لماذا عدم الاهتمام بالآثار والسياحة والحضارة في ذي قار؟! لم يحصل ذلك لعدم وجود من يهتم بتلك الآثار ويقدر قيمتها أما لقلة الخبرة أو لعدم معرفة كيفية التصرف في الحكم والمسؤولية أو لعدم تخصيص ميزانية ضخمة لهذا القطاع الحيوي أو للانشغال بالصراعات الحزبية والسياسية وعدم الأهتمام أو التفكير بهذه الثروات أو لعدم وجود ذوي الخبرة والكفاءة ممن يطور هذا القطاع الحيوي...
يكفي انتظار منقبين وباحثين أجانب بأنتظار أن تتكرم على ذي قار حكوماتهم وترسلهم لنا ليمنوا على ذي قار بذلك...!!على المسؤولين في ذي قار أن يطلبوا ويطالبوا بمنقبين وآثاريين وباحثين في التاريخ ويوفروا لهم كل متطلباتهم وإحتياجاتهم وتخصيص ميزانية خاصة بهذا الشأن والتأكيد على هذه المشاريع وفائدتها الحيوية في دعم السياحة والاقتصاد والأستثمار في المحافظة، ومن الممكن جداً أن تصبح مدينة أور السومرية بشهرة أهرامات الجيزة في مصر إذا توافرت الإرادة السياسية لذلك.
ستبقى اثار ذي قار جرحاً نازفاً يشهد على حضارة لم يولي لها أحد أدنى إهتمام في العراق القديم والحديث...ستبقى حضارات ذي قار تنزف دماً لتاريخ كان شاهداً على أبناءه الذين خربوه تخريباً...
وعرفاناً بالجميل في التنقيب والبحث عن القليل جداً من الحضارة السومرية في ذي قار وتحديداً مدينة الناصرية أوجه شكري وتقديري لعالم الآثار البريطاني الراحل السير (لينارد وولي) رحمه الله، وهو أول من نقب عن الآثار في مدينة اور عام 1922، ومن أهم اكتشافاته المقبرة الملكية في أور والتي تضاهي في أهميتها اكتشاف المقابر الملكية الفرعونية في أهرامات الجيزة في مصر، ولكن لم يتم تسليط الضوء عليها...
وكذلك الشكر والتقدير لعالم الآثار العراقي الراحل (طه باقر) رحمه الله، والذي نقب عنها ثانياُ وأشرف على صيانتها في حوالي ستينيات القرن الماضي ومن يومها تركت مهملة ولليوم.
https://telegram.me/buratha