حسن الهاشمي
وهل الدين إلا الحب، والذين آمنوا أشد حبا لله تعالى، وحب الله هو حب للمعاني الجميلة التي تضفي على الحياة بهجة وروعة وتألقا وجمالا، الحب الحقيقي هو حب الله وحب رسوله وحب من يحبهما وهم أئمة أهل بيت الرحمة والهدى والفرقان، فإن مثل هكذا حب تجد فيه راحة القلب وسعادته، ومتى ما أصبح القلب معمورا به، فإنه قلب سعيد وإن تكالبت عليه الهموم والغموم، وهو من أعظم نعم الله على عباده، وكل حب دنيوي يستمد حبه من الحب الحقيقي فهو حب باق لأزلية الحب الحقيقي، ومن المفترض أن يكون حبنا الدنيوي على طول حبنا الحقيقي لا في عرضه لكي لا يكون ثمة تقاطع بين الحبين.ومقارنة بسيطة بين من جمع حب الدنيا ومن جمع حب الله تعالى في قلبه كيف إن الأمور المادية تنساق ذليلة إزاء المعنويات التي لا تقاس بأي شكل من الأشكال بالماديات مهما بلغت ومهما تبوأت مراكز دنيوية زائلة، فهذا هشام بن عبد الملك أراد الحج في إحدى السنين.. ولشدة الحجيج لم يفسح له المجال ولم يهتم الناس لأمره فلم يتمكن من استلام الحجر الأسود.. فخرج من البيت الحرام واتخذ له كرسيا يشرف على الحجيج فجلس عليه وهو يشاهد الناس وحوله حاشيته.. حتى قدم الإمام زين العابدين عليه السلام يريد استلام الحجر فانشق الناس له صفين وفسحوا له المجال وتسابقوا لتقبيل يده الطاهرة فاغاض ذلك الموقف هشام وأثار اهتمام من معه حتى سأل احد حاشيته من هذا يا أمير المؤمنين؟؟!! فأنكر هشام معرفته قائلا: لا اعرفه!! خوفا من أن يرغب به أهل الشام من حاشية هشام.. فأثار هذا الإنكار الكاذب حفيظة الفرزدق الذي كان واقفا إلى جنب هشام فانشد قائلا:هذا الذي تعرف البطحاء وطأته... والبيت يعرفه والحل والحرمهذا بن خير عباد اللـه كُلُّهمُ... هذا التقـي النقي الطاهرُ العلمُوليس قولك منْ هـذا بضائـره... العرب تعرف من أنكرت والعجمُفاغضب هذا الشعر هشام ومنع جائزته عن الفرزدق وقال له: ألا قلت فينا مثلها؟! فرد عليه الفرزدق: هات جدا كجده وأبا كأبيه وأما كأمه حتى أقول فيكم مثلها!! فزاد هذا الكلام من غضب هشام وأمر بحبس الفرزدق.. فأرسل الإمام زين العابدين باثني عشر ألف درهم وكانت كل ما لدى الإمام عليه السلام.. إلا إن الفرزدق ردها قائلا: ما قلت الذي قلت إلا غضبا لله ولرسوله.. بيد إن الإمام اقسم عليه إلا أن يأخذ الدراهم,, فقبلها.. وصار الفرزدق يهجو هشاما من الحبس حتى أطلق سراحه..فالإمام زين العابدين عليه السلام من جهة كان يحمل جراب الطعام على كتفه لتوزيعها على الفقراء والمعوزين وكان له قصب السبق في تعليم الناس وإرشادهم بأمور دينهم، بينما هشام كان منغمسا من قمة رأسه إلى أخمص قدميه بالملذات وتوافه الأمور، هذا هو الفرق بين الإنسان الرباني والإنسان المادي، حيث إن من عظم الله في عينه صغر ما دونه أمامه وهو لا يهاب شيء ويهابه كل شيء، فالحب عندما يصبغ بصبغة ربانية فإنه يضفي على الأمور المادية هالة قدسية ومهابة روحانية، لا بأس أن يحب الإنسان وطنه وزوجته وأولاده وماله وذهبه وفضته وعقاراته وسياراته، ولكن هذه الأمور ينبغي أن لا تلهي الإنسان عن حبه الحقيقي، لأنها زائلة لا محالة ولذاتها آنية ومرحلية، أما إذا امتزجت بالحب الحقيقي فإنها تدوم وتتألق بقدر ذوبانها بتلك الحالة الربانية، ولا نزال نحن نستأنس بالحالات المادية دون الحالات المعنوية، حيث إن الطبيعة البشرية تواقة للمادة وللحس أكثر من الروح والمعنويات، وما نراه من انهمار المشاكل ونزول المتاعب علينا هو مما عملت أيدينا من استئناس بالماديات وابتعاد عن الغيبيات. ألا بذكر الله تطمئن القلوب، بهذه البلاغة القرآنية باستطاعتنا التغلب على الكثير من هواجس القلق التي تعترضنا في حياتنا اليومية، تلك الهواجس إذا ما هاجمت الإنسان المجرد عن الحب الحقيقي جعلته قاعا صفصفا لا يقوى على مقاومة العواصف التي تعترضه في طريقه اللاحب، فمشكلة الإنسان إنه يتفاعل مع الماديات أكثر من تفاعله مع المعنويات، وما حوادث الانتحار المتفشية في أوساط المجتمعات المادية الذين يلتجأون إليها بمجرد مواجهة بعض المشاكل، إلا دليلا على ابتعاد ذلك النشأ عن الروح والمعنى المتأصل في المعتقدات الدينية التي تحاول الموازنة المعقولة بين الماديات والمعنويات.والإنسان السوي الذي عجنت طينته من المادة والروح ينبغي أن يمازج بينهما ويلبي متطلباتهما معا، لا أن يذهب وراء المادة ويترك الروح ولا أن يعتني بالروح دون المادة، فتلبية احتياجهما معا مطلوب في هذا الإنسان لكي تكون احتياجاته المادية تسير وفقا لمقاييس المعنويات والغيبيات، فإنها ترشدها وتسوقها الوجهة الصحيحة وتدلها على الصواب وتوردها مناهل الخير والمعرفة والنجاح والسؤدد، وهكذا فالإنسان الذي يوفق بين المزج الصحيح بين متطلباته المادية والمعنوية يضفي على تحركاته وحبه وسكناته ومعاملاته صبغة تكاملية تجعل منه أنموذجا حيا في التعامل المناقبي مع من يحيط به من أفراد أسرته ودائرة عمله ومحيط مجتمعه الذي يعيش في أوساطه، فالوسطية مطلوبة لكي لا نقع في متاهات المادة ورهبانية الروح، تلك الوسطية التي أشار إليها أمير المؤمنين في قوله: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
https://telegram.me/buratha