المهندس لطيف عبد سالم العكيلي
عرف عن سيرة أجدادنا العظام تشبع فضاء حياتهم العامة بما هو غريب ومثير من حكايـــات جداتهم التي تمحور بنائها الدرامي بشكل رئيس حول خرافتي( السعلوة والطنطل ) ،فضلا عن غيرهما من الإفرازات التي وصلتهن شفاهيامن الأساطير والقصص والروايات القديمة . وقد أسهمت صعوبات حياة هؤلاء الرجال في تمرسهم على مواجهة أوسع آ فاق المجهول من عالم الخوف وهم يجوبون صحارى العرب ويتعطرون بسخونة جفاف رمالها في ليالٍ حالكة الظلمة ولو قدر لأحدهم الآن أن يتمرد على عرينه الأبيض ويخرج من قبره إلى عالم اليوم الذي تسيدت زمنه مفاهيم العولمة والديمقراطية والشفافية و الإصلاح و القوة المفرطة ، فضلا عما ظهر من أكثر منظومات المعلوماتية تطورا ، أكاد اجزم انه لم يجد بدا من التضرع إلى بارئه أن يعيد جسده إلى عالمه السفلي حين يطرق سمعه نبأ ظهور تمساح في شواطئ العراق ؛ لحاجته إلى غسيل دماغ يوفر له الاستعداد لإحداث تغييرات في طبيعة تفكيره الذي يؤهله لتقبل هذه الرواية التي أوردتها المصادر الخبرية في التاسع من آب الحالي ، وبلادنا تعيش في خضم أزمتها السياسية وسط التحديات التي ماتزال تفرض صعوبات كبيره على مسار العملية السياسية ، وتزيد من معدلات مشكلات البلاد الأمنية والاقتصادية والإنمائية التي فرضت على إنسان الرافدين التزام الصبر سبيلا لمواجهة معاناته . ولا نخطئ القول إن هذا الحدث المتفرد على الصعيد المحلي كان مثار دهشة الجميع ، لا لغرابته فحسب ، بل لما ترسخ من قناعات حول استحالة حدوث ما تطلب ثلاثة أيام بلياليها من شرطة الديوانية لملاحقة هذا الزائر الغريب الذي وفد عنوة الى بلادنا بعد أن دفعه غروره وتهوره إلى عدم تكليف نفسه التشبث للحصول على تأشيرة دخول رسمية. إذ أعلمتنا المنابر الإعلامية تمكن فريق من شرطة محافظة الديوانية الإجهاز على تمساح يربو طوله على المتر في نهر الديوانية الذي يدخل هذه المدينة قبل توجهه صوب السماوة قادما من محافظة بابل ، بوصفه احد تفرعات نهر الفرات الذي مايزال مصدر الهام الشعراء والأدباء والفنانين وغيرهم من الذين اثروا الفضاء الثقافي العراقي بانجازات إبداعية رائعة ، رغم معاناته منذ سنوات من مشكلات التلوث التي أثرت سلبا على نقاوته وأفقدته طعم العذوبة التي عرف بها ، فضلا عن تدني منسوب مياهه بسبب التجاوزات التركية والسورية على حصة العراق المائية من إيرادات هذا النهر الخالد على خلفية اقتطاعهما حجـــوم من مـــــاء النـهر أكثر ممـا هو مقــرر لهـــما . وبعد نجاح الشرطة في مهمة التخلص من التمساح ، وجهت السلطات المحلية تحذيرا إلى السكان المحليين من ارتياد النهر أو الاقتراب من جنباته لحين التأكد من خلوه من هذه المخلوقات الغريبة ، حيث يسود الاعتقاد وجود تمساحين آخـــرين شوهدا في هذا النهر بحسب شهود العيان . وفي الوقت الذي يبارك فيه الجميع مسعى شرطة محافظة الديوانية إبعاد الخطر عن المواطنين والحفاظ على سلامتهم ، وبخاصة الشباب والصبية الذين يرتادون النهر بشكل دائم وبأوقات مختلـفة هربــــا من حر الصيف اللاهب الذي تجاوزت فيه درجــــــات الحـــــــــــــــرارة قبل أيام الــــ (50 ) درجة مئوية في ظل تدني ساعات إمدادات الطاقة الكهربائية التي ماتزال تشكل أهم أزمات البلاد وأكثرها تأثيراً ، فإن الأمور التي ضمنها مدير بيئة الديوانية تصريحه حول هذا الحادث أثارت دهشة عقلاء القوم وحيرت عقول العلماء والحكماء ، فضلا عما تتطلبه تداعيات مسالة ظهور التمساح من وقفة مسؤولة تفضي إلى إزاحة الستار عما خفي من الحقائق . إذ اشار بحديثه إلى عدم معرفته مصدر هذه الحيوانات البرمائية المفترسة ، مرجحا ثلاثة احتمالات لوصول التماسيح إلى مجارينا المائية ، أولهما المسطحات المائية ، وثانيهما المتنزه القريب من النهر ، في حين تضمن آخرهما وهو المهم في حديثنا عبارة ( فعل فاعل ) ! وكحقيقــــــــة واقعــة يمـــــــكن التيقن من عدم تواجــد هذا النـوع من المخــــلوقات فـــي مسطحـــــــــــاتنا المائــــــية منــذ أن عرفــــت بــــــــــــــــــلاد الرافـــــــــدين اولــــى الحضـــــــــارات الإنسانية ، لعدم مساعـدة ظروف بيئتنا المائـــية على تواجد هذه الحيوانات الضخمة و المفترسة بمجارينا المائية ، وهو الأمر الذي يفضي إلى التقليل من أهمية أول احتمالات مصدر تمساح نهر الديوانية . ولو افترضنا دخول التماسيح مسطحاتنا المائية ، لكان الاتجار بجلود التماسيح العراقـــية متفوقا على تجـــــــــارة ( القوا طي ) الوطنية التي مايــــزال يعيش على مدا خيلها العشرات من أبناء بلد حباه الله بمختلف الثروات الطبيعية ، فضلا عــن احتلال العراق المركز الأول عالميــــا في قائمة الدول المصدرة لهذه البضاعة ؛ لتجاوز اغلب من يمتهن الصيد في بلادنا التشريعات القانونية الضابطة لطبيعة التعامل مع ثروتنا الحيوانية في البيئتين البرية والنهرية ، وبخاصة في مواسم التكاثر ، فمن المعروف أن الصيد الجائر يمارس على نطاق واسع في بلادنا منذ عقود كثيرة من دون تدخل ما معني من مفاصل السلطة التنفيذيــــة للحـــــــــــــــد من استخدام الصيادين لما محظور من وسائل صيد ، مــثل المبيدات ،الصعق الكهربائي الذي كان ومايزال سببا وفاة كثير من الأبرياء الذين يكثرون من ارتياد مياه الأنهار ، فضلا عن التفجير بالصواعق الذي يشار إليه محليا باسم ( البمبة ) .ويبدو أن الاحتمال الثاني يعد الأكثر قبولا ، فيما لوثبت وجود تماسيح في المتنزه القريب من النهر ، ولكن هل أن إدارة المتنزه كانت عاجزة عن القيام بواجباتها ؟ وبخاصة إخبار السلطات المحلية بهروب التماسيح ، فضلا عن تكثيف جهودها واستنفار امكانياتها البشرية والمادية من اجل إعادة هذه الحيوانات المتهورة إلى مواقعها ، بوصفها جزء من ثروات البلاد التي تفرض على إدارة المتنزه التعامل معها بحرص وعناية . ويبقى الاحتمال الأخير مثار جدل وخوف شديدين من إمكانية تحول بلادنا إلى فضاء واسع لكل الفعاليات التي من شانها التأثير سلبا في بيئتنا والإسهام بتردي واقعنا الصحي الذي يعاني من تحديات كبيرة ، حيث كشفت الدراسات التي أجريت على التمساح الذي جــــــرى التخلص مــــنه بجهود شرطة الديوانيـــة انه مــــن تماسيح نهــــر النيل التـي تتـنقل في حوض النيل الإفريقي .إن خطورة هذا الواقع تستلزم من القيادات الإدارية وحكومة الديوانية المحلية إجراء دراسة تفصيلية حول الحادث من اجل كشف الظروف التي أسهمت بوصول هذه التماسيح إلى مياهنا ، وسعيا في توضيح الحقيقة التي تمكننا من مواجهة مثل هذه النشاطات التي تفضي إلى مخاطر لايحمد عقباها . وليس مــن شك في ان قرار سلطة الائتلاف فتح المنافذ الحدودية علــى خلفـــية انهيار النظام السابق في نيسان 2003 م أفضى إلى تحويل السوق العراقية إلى حاضنة لكل أنواع البضائـــع والمواد ، من دون رقيب أو إجراءات ضابطة للنشاط الاستيرادي ، ومن جملة ذلك ماله علاقة بمشكلة بحثنا . إذ شملت الاستيرادات أنواع من الحيوانات المفترسة والغريبة على بيئتنا ومختلف النباتات والشجيرات وعقاقير الهلوسة والأقراص المخدرة التي يجري تداولها على الأرصفة وفي الصيدليات الأهلية من دون خجل أو ملاحظة رقيب تدفــــعه غيرتـــه الوطنية للتخفيف من شدة آثارها بموارد أفقر شرائحنا الاجتماعـــــــــــــــــــــية ، والحد من الظواهر التي تسئ إلى مجتمعنا . ومصداقا لما اشرنا إليه فيما تقدم بصدد خطورة آثار الاستيرادات العشوائية على موارد البلاد وثرواتها نجد من المهم التذكير بإدخال العمالة المصرية التي كانت سائدة في العراق نبتة عشبة النيل إلى بلادنا ،بوصفها نبتة زينة ، فانتقلت مخاطرها البيئية والاقتصادية والصحية بشكل سريع من حدودها الضيقة في أروقة مشاتلنا إلى أنهارنا وأصبحت وبالا على إدارات بعض القطاعات ، لاسيما الزراعة والري والموارد المائية والصحة والبيئة ، وماتزال آثارها تشكل مخاطر على اقتصادنا الوطني.وعلى وفق ماتقدم ينبغي الإسراع بتفعيل التشريعات القانونية الخاصة بالسيطرة على تجارة الحيوانات والنباتات والأدوية والإعشاب وغيرهما من النشاطات التي تعكس توسيع دائرة المخاطر وتفعيل ثقافة الرذيلة بغية تامين سلامة مواطنينا وبيئتنا وشبابنا وبلدنا .ومن المهم الإشارة هنا إلى إن الله تبارك وتعالى حبا بيئتنا المائية بنعم كبيرة ومتعددة ، إضافة إلى إن هذه البيئة كانت على مر العصور حاضنة لكل ماهو جميل ،مما جعلها من ابرز مصادر الهام الشعراء والأدباء والفنانين ، حيث ظهرت مفرداتها واضحة في المنجز الإبداعي العراقي . ويتواجــــد في مياهــــنا أجمل أنواع السمك وأطيبها مــذاقا مــــثل الشـــبوط والبـــني وغيرهـــما ،فضلا عــــما يعيش على أسطحها من طـــيور غايــــة فـــــي الروعـــــــــــة والجـــــمال . وليس من شك في إن التمساح وغيره من الحيوانات الغريبة لايمكن أن يعيش في هذه البيـــــــئة لخصوصيتها وتفاعل الناس هنا معها عبر مختلف العصور . ولذلك ظهور تمساح متمرد في نهر الديوانية الذي تغفوا على جنباته مدينة هادئة وساحرة يشبه إلى حد بعيد من يحاول إقناعك قبول فكرة ظهور بعير يمارس الرياضة على جليد القطب الجنوبي على خلفية تزايد مسببات تنامي ظاهرة الاحتباس الحراري .أتمنى كما يتمنى غيري من أبناء هذا البلد العملاق الذي واجه كل المصائب بصبر وأناة ، أن نجهد أنفسنا في الحفاظ على بيئتنا وان لانسهم بجعل ملامحها العامة جزء من بيئة أفريقيا أو الأمريكيتين ربما بدعوى أن التماسيح نسخة مطورة لأحد كائنات البيئة المائية المعروفة في بلادنا باسم ( ابو الزمير ) أو كائن نصف ممسوخ نتاج تزاوج ذكر أبو بريص بأنثى أبو الزمير ، فما يزال العراق بأهله وخيراته ونخيله وكبريائه وجمـــــاله سحر الشرق . ولا احسب أن هذا السحر الفاتن يتواءم مع توجهـــات مـــــــــــن يحاول إدخال ما يسهم فــــي تغيــــيره وتلويث جمال بيئته المائية ،وإذا كنا نحلم ان ينام أطفالنا مــــن الأجيال الجديدة على حكايات مستلهمة من انجازات مبدعينا مثلما تعلق الانجليز في النصف الأول من القرن التاسع عشر بروايات( ديكنز) لتركيزه على لون الحيـــاة التي عاشــها ، فـــإن التماسيح ستكون بدائل موضوعية عن جمال حكايـــات جداتنا حول (الطنطل والسعــلوة) ؛ لتعيـــدنا إلى عالم ما قبل الثورة الصناعية انسجاما مع نبوءة وزير الخارجية الأمريكي السابق ( جيمس بيكر ) التي توعد بها الشعب العرقي قبل اندلاع العملـــيات العسكرية لحرب الخليج الثانية عام 1991 م . كفانـــــا وإياكم شـــــر تماسيح الأرض التي نهشت أجسادنا ، وأرعبت أطفالنا ، وبددت أحلامنا ، وغــــــيرت أحوالنا .
* المهندس لطيف عبد سالم العكيلي/ باحث وكاتب
https://telegram.me/buratha