حسن الهاشمي
قال تعالى: وقل ربي زدني علما، يحترم الإسلام أمرين هما: العلم والعمل، ويرفض أمرين هما: البطالة والجهل، فبالأول نستطيع أن نسير في الطريق السوي والمضيء بحكمة وروية وبصيرة كيما نصل إلى المبتغى والغاية والهدف بأقل الخسائر وأقصر الطرق، وبالثاني نبقى نراوح مكاننا إذا ما انتكسنا إلى الوراء بخطوات وخطوات، ونظل نندب حظنا العاثر دون أن نستفيد مما منحنا الله تعالى من نعم العقل والصحة والثروات. كونوا دعاة للنـاس بغير ألسنتكم، هذه طريقة أهل البيت عليهم السلام في تعاملهم مع الناس، فهم دعاة للمثل والسيرة الحسنة والمواقف النبيلة والأخلاق الكريمة والأفعال الجميلة، وهم بذلك أضحوا وبكل جدارة قدوة لمن اقتدى، وأسوة لمن تأسّى، وإذا ما أردنا الفلاح والصلاح ما علينا إلا أن نسير على نهجهم في التكافل والتراحم والتوادد ونبذ كل ما يعكر صفو الحياة الهانئة الرغيدة. ليس هناك عاقلٌ لا يريد السعادة الاجتماعية والحياة الدنيوية المستقرّة إلى جانب الرغبة في العاقبة الحميدة سواء في البرزخ أو القيامة، وعليه فإنّ سلوك هذا الطريق يضمن الاطمئنان القلبي والاستقرار الاجتماعي، وهما الضالتان التي فقدهما معظم أهل الدنيا بابتعادهم عن نهج السماء. حري بنا أن نتأسى بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله في مكارم الأخلاق، حيث إنّ أمر المعاد والمعاش لا ينتظم، ولا يتهنأ طالبه إلا بالخُلق الكريم، ومحطة الصوم في شهر الرحمة والرضوان والحج في ذي الحجة هي خير محطة في صقل النفوس وتهذيبها بما فيه الخير والصلاح، فلا تتوهم أن العمل الصالح الكثير ينفع من دون تهذيب الخلق وتقويمه، بل إن الخلق السيئ يُفسد العمل الصالح ويجعله قاعا صفصفا كما يفسد الخلّ العسل، فأي نفع فيما عاقبته الفساد؟! وفي المقابل ترى الخير كله فيما إذا ما اقترن العلم بالعمل كما هو واضح من القصة التالية:كان احمد بن محمد بن أبي نصر البيزنطي عالماً كبيراً من علماء عصره، وكان يداخله شك في إمامة الرضا (عليه السلام) ولكنه اعتقد بها أخيرا بعد أن جرت بينه وبين الإمام (عليه السلام) مكاتبات ومناقشات وأسئلة وأجوبة.وذات يوم قال للإمام (عليه السلام) : يا ابن رسول الله اشتهي أن تدعوني إلى دارك في وقت تعلم انه لا مفسدة لنا في الدخول عليكم فيه من الأعداء، لأستفيد منك وانهل من علمك ، فأرسل له الإمام (عليه السلام) مطيته ذات يوم ، وكان الوقت أول الليل ودعاه إلى بيته.ركب البيزنطي المطية واتجه إلى بيت الإمام (عليه السلام) ، وجلس معه هناك إلى أن مضى شطر من الليل طويل كان البيزنطي خلاله يعرض على الإمام مشاكله ويطرح عليه أسئلته والإمام (عليه السلام) يحلّها ويجيب عليها ، فلما حلّ وقت النوم قال الإمام (عليه السلام) لغلامه : هات الثياب التي أنا فيها لينام فيها البيزنطي.فرح البيزنطي كثيراً وتمنى له أن له أجنحة يحملنه إلى الجو فلم يعد جلده يسعه ولا رجلاه يحملانه لشدة ما هو فيه من فرح ، فقال في نفسه : هل هناك من هو أسعد مني أنا الذي بعث الإمام بمطيته إلي وجلس معي تلك الجلسة وهاهو يأمر لي بثياب نومه.كان الإمام (عليه السلام) قد لاحظ سيماء الغرور والانتشاء بادية على البيزنطي، وكان قد اتكأ على يديه يريد النهوض، إلا انه جلس ثانية وقطع سلسلة أفكار البيزنطي بقوله :يا احمد لا تفخر على أصحابك بذلك فان صعصعة بن صوحان مرض فعاده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ووضع يده على جبهته وجعل يلاطفه فلما أراد النهوض قال : يا صعصعة لا تفخر على إخوانك بما فعلت لك فاني إنما فعلت ما فعلت لتكليف يجب عليّ.بعد أن أجابته على مسائله العلمية أردف ذلك بسجاياه العملية التي تدل على تواضعه وحسن أخلاقه وحب الخدمة التي هي معجونة في ذواتهم عليهم السلام، وذلك ليس ترفا في حياته وإنما فعل ما فعل امتثالا لأمر الله تعالى وطاعة لما أمرهم من سجايا الأخلاق الفاضلة وما نهاهم عن موبقات الدنيا الفانية. المهم في شريعة الإسلام تطبيق ذلك النهج النير في السلوك الاجتماعي الذي يحل مشاكل الناس - وهي كثيرة وخصوصا في وقتنا الحاضر - وينظم علاقاتهم مع بعضهم في أرقى صور وأبهى قوانين قلما تجد لها نظيرا بين القوانين الوضعية، وإلا ما فائدة المجلدات الضخمة في التفسير والأخلاق والسلوك وغيرها من العلوم وهي مركونة في المكتبات أو محفوظة في صدور بعض العلماء دون أن نقطف ثمارها على أرض الواقع ودون أن نعيش نتائجها ودون أن نستظل بظلها لنكون بمنأى عن فتن الزمان وتكالب المتربصين وإرهاصات الجهال وأباطيل المندسين وهي ما نراها جلية في دهاليز حياتنا اليومية، ما يلح على المصلحين ضرورة تضاعف الجهود في المصالحة بين العلم والعمل.
https://telegram.me/buratha