فضائل العترة الطاهرة (ع) (الحلقة التّاسعة)اصدارات المجمع العلمي للدراسات الثقافة الاسلامية في النجف الاشرفاعداد الشيخ حيدر الربيعاوي وتاليف الشيخ الدكتور عباس الانصاريفضيلة الشَّهادة في سبيل الله
معنى الشهادة: إتفق المعنى اللغوي والاصطلاحي للشهادة عند عامة علماء المسلمين بأنها:القتل في سبيل الله سبحانه .الشهيد: هو المقتول في سبيل الله، والجمعُ شهداء، واسُتشهِدَ: قُتِلَ شهيداً، والشهيد: الحي، أي هو عند ربه حيّ.قال الانباري: سمِّي الشهيد شهيداً، لان الله وملائكته شهود له بالجنة، وقيل: سُمُّوا شهداء، لأنّهم مِمَنْ يُشهَدُ يوم القيامة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمم.قال تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) .قال أبو المنصور: والشهادة تكون للافضال فالافضل من الاُمة، فأفضلهم من قُتِلَ في سبيل الله، وبيّن الله أنّهم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله .
الشهادة تجارة مع الله (تعالى):قال تعالى:(إنّ الله اشَتَرى مِنَ المؤمنين أنفُسَهُمْ وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فأستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) .* بيان الشيخ الطبرسي (قدس سره) لحقيقة الشراء:حقيقة الاشتراء لاتجوز على الله تعالى، لأنّ المشتري إنّما يشتري ما لا يملكه وهو عز اسمه مالك ـ حقيقي ـ الاشياء كلها لكنه مثل قوله (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً)في انه ذكر لفظ الشراء والقرض تلطفاً لتأكيد الجزاء، ولما كان سبحانه ضمن الثواب على نفسه عبّر عن ذلك بالاشتراء وجعل الثواب ثمناً والطاعات مثمناً على ضرب من المجاز واخبر ـ سبحانه ـانه اشترى من المؤمنين أنفسهم يبذلونها في الجهاد في سبيل الله واموالهم أيضاً ينفقونها ابتغاء مرضاة الله على ان يكون في مقابلة الجنة .* لماذا أصبحَ الإمام الحسين سيّد شباب أهل الجنة؟روى العلامة المجلسي في البحار عن ابي عبدالله (عليه السلام) في بيان معنى هذه الاية المباركة (إنّ الله اشترى مِنَ المؤمنين...)، قال كان الحسين مع أمّه تحمله فأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك، وأَهلَك الله المتوازين عليك، وحكم الله بيني وبين مَنْ أعان عليك.قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):يا أبت اي شيء تقول؟قال: يا بنتاه ذكرتُ ما يصيبه بعدي وبعدك مِنَ الأذى والظلم والغدر والبغي وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل وكأني أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم.قالت: يا أبة واين هذا الموضع الذي تصف؟قال: موضع يقال له: كربلاء وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الامة، يخرج عليهم شرار أمتي لو أن أحدهم شفع له مَنْ في السماوات والارضين ما شفّعوا فيه وهم المخلّدون في النار.قالت: يا أبة: فيقتل؟قال: نعم، يا بنتاه وما قتل قتلتةً أحدٌ كان قبله ويبكيه السماوات والارضون والملائكة والوحش والنباتات والبحار والجبال ولو يؤذن لها ما بقي على الارض متنفّسٌ ويأتيه قومٌ مِنْ محبينا، ليس في الارض اعلم بالله ولا أقوم بحقّنا منهم وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجور وهم الشفعاء وهم واردون حوضي غداً، أعرفهم إذا وردوا عليَّ بسيماهم وكلّ أهل دين يطلبون أئمتهم وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا وهم قوام الارض وبهم ينزل الغيث.فقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام): يا ابة إنّا لله وبكت.فقال لها: يا بنتاه! إن أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا، بذلوا أنفسهم وأموالهم (بأنّ لهم الجنة يُقاتلون في سبيل الله فيُقتلون ويقَتلَون وعداً عليه حقاً)فما عند الله خيرٌ مِنَ الدنيا وما فيها قتلةٌ أهون مِنْ ميتة ومن كتب عليه القتل خَرجَ الى مضجعه ومَنْ لم يُقتل سوف يموت. يا فاطمة بنت محمّد! أما تحبّين أن تأمرين غداً بأمر فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟أما ترضين أن يكون أبنك مِنْ حملة العرش؟أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة؟أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه اعداءه؟أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار يأمر النار فتطيعه يخرج منها مَنْ يشاء ويترك مَنْ يشاء؟أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وإلى ما تأمرين به وينظرون إلى بعلك قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله؟فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعلك إذا أفلجت حجته على الخلائق وأُمِرت النار أن تطيعه؟أما ترضين أن الملائكة تبكي لابنك وتأسف عليه كلّ شيء؟أما ترضين أن يكون مَنْ أتاه زائراً في ضمان الله ويكون مَنْ أتاه بمنزلة مَنْ حجّ إلى بيت الله وأعتمر ولم يخل من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً وإن بقي لم تزل الحفَظَة تدعو له مابقي ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتّى يفارق الدنيا؟قالت: يا أبة سلّمتُ ورضيت وتوكّلتُ على الله فمسح على قلبها ومسح عينيها، وقال: إني وبعلك وأنت وابنيك في مكان تقرّ عيناك ويفرح قلبك .وإن كان ظاهر البيان مِنَ الإمام الصادق (عليه السلام) مختص بسيد الشهداء لكنه لاينافي انطباقه على أهل بيت العترة الطاهرة (عليهم السلام) وشموله لهم، باعتبار أنَّ الإمام الصادق ـ (عليه السلام)ذكر أبرز مصاديق هذه الاية المباركة، بل بيّن (عليه السلام) المصداق الأمثل لها; والمتميز في الجهاد والشهادة في سبيل الله، على أن نهضته لمن أسمى الثورات على مرّ التاريخ، وإلا فاهل البيت (عليهم السلام) نور واحد في الجهاد والشهادة والموقف; ولكن جهادهم وإستشهادهم كان بحسب ما يتطلبه الموقف ويحكم به الظرف، وطبقاً لِما تقتضيه المصلحة، فعندما أشتدت الظروف القاسية بأهل البيت (عليهم السلام) في أيام إمامة الإمام الحسين (عليه السلام) أدت لتحديد دوره الرسالي في المجتمع الاسلامي، بل منعته منه، وأخذ الخطر يشتد ويقترب مِنَ اللحوق بالدين الاسلامي الحنيف بغية التشوبه بالمذهب الحق ـ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) والمساس بالعقيدة الاسلامية الحقة.ومِنْ هنا ولصعوبة الموقف نهض سيد الشهداء (عليه السلام) مضحياً بنفسه وماله وعياله، بل بكل ما يملك; للحفاظ على الرسالة والمذهب الحق، وأُستشهد في سبيل الله ونصرة دينه، فاستحق أن يمتاز بشهادته وجهاده عن سائر الأئمّة (عليهم السلام) مع الحفاظ على وحدة المقام ورفعة المنزلة عند الخالق العظيم (جلّ وعلا); وأنْ تكون لثورته خصائص متميزة عن كل ما حصل في التاريخ مِنَ الثورات، فتكون منقطعة النظير، ويكون قائدها الرسالي منفرد القيادة والبطولة والمصداق الحقيقي للشهادة في سبيل الله تعالى ويحصل على أعلى مراتب الشهادة في الجنة فيكون سيد شهدائها.حقيقة الشهادة في سبيل الله:عوداً على البدء في صدر البحث، بعد أن تقدمت حقيقة الاشتراء من قبله (جلّ وعلا) لانفس المجاهدين الذين بذلوا أنفسهم واستشهدوا في سبيله تعالى ونصرة دينه وإستمرار رسالة نبيه الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لهذا عبّر سبحانه وتعالى عن هذه الحقيقة السامية ـ الشهادة في سبيله ـ بذلك، لانه ضمن الأجرَ لهم عوضاً لجهادهم العظيم واكراماً لأرواحهم الزكية المستبشرة بلقاء ربها الفرحة بحصول الشهادة والفوز بها.للبلاغة عظمة وللمجاز فائدة في إظهار بعض معاني حقيقة الشهادة، يمكن أنْ نستفيده في هذا المقام، فنبيّن ـ بمقدار حاجة البحث ـ أبعاد هذه التجارة الإلهيّة التي لاتبور في دار الخلود; والتي تُنجّي أصحابها من عذاب يوم أليم، وبقيت صورها رائعة زاهية في دار الصمود والتغلب على الشهوات والنزعات النفسية، تجارته سبحانه مع أحب عباده اليه.فالمشتري هو العزيز الحكيم (جلّ وعلا); والبائع هو المؤمن بالله ورسوله; وبضاعته هي النفس العزيزة الغالية عليه الرخيصة الحقيرة ـ بمعنى قليلة الثمن ـ لمرضاة الله; والثمن هو وعدهم مِنْ قبل الفعال المريد سبحانه وتعالى; بأن لهم الجنة مُلكاً خالصاً لهم، وهذا الوعد الالهي مؤكد في جميع الكتب السماوية، وكثيراً ما نلاحظ ذلك في القرآن الكريم، ووثيقة هذا الوعد، هي البشرى في الاخرة بقوله تعالى: (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) .وافرحوا بهذه المبايعة حتّى ترى أثار السرور في وجوهكم بسبب هذه المبايعة; لانكم بعتم الشيء من مالكه واخذتم ثمنه; ولانكم بعتم فانياً بباق وزائلاً بدائم .المجاهدون متفاوتون في تجارتهم الإلهيّة، لهذا تكون الشهادة على درجات، حيث نال أعلى درجاتها أهل البيت (عليهم السلام)، بل حصلوا على المقام المحمود والمنزلة العليا منها في أعلى عليين الجنة، لانهم (عليهم السلام) لم تكن شهادتهم في سبيل الله بهذا المعنى فحسب، وانما كانت ناتجة عما يتملكونه من المعرفة الحقيقية بالله (جلّ وعلا) والدين وضرورة حفظ الرسالة الإلهيّة، معبرين عن عمق علاقتهم وإرتباطهم بالحق (جلّ وعلا); واخلاصهم في الجهاد في سبيله مسلّمين بنتائجه بل راضين بها (فرحين بما آتاهم الله من فضله) ، فكانوا المصداق الحقيقي لقوله تعالى:(ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل احياءاً عند ربهم يرزقون) .نعم ; كان لهم كلّ ذلك ; لأنّهم قدموا أنفسهم الطاهرة ثمناً لاحياء الدين الإلهي الحق وإسعاد البشرية بنور الهداية، فكرّمهم تعالى بأخص المقامات من النعيم (وعداً عليه حقاً) لاشك فيه، لانهم زهدوا في دار الفناء، وقصدوا دار البقاء، استجابة لأمر الله تعالى وتلبية لنداء رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى كتب الله (تبارك وتعالى) لهم هذه المقامات الرفيعة والمنازل العالية في لوح عرشه المحفوظ، وبما أن سيد الشهداء الحسين (عليه السلام)نال المقام الخاص والمنزلة العظيمة منها، فمن الجدير بنا أن نذكر كيفية كتابه إستشهاده (عليه السلام) في اللوح الإلهي.
استشهاد الحسين(عليه السلام)في اللوح الالهي:روي الشيخ ابو جعفر بن بابويه ـ عن ابي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أبي لجابر بن عبدالله الانصاري: إنّ لي إليك حاجة، فمتى يَخفْ عليك أن أَخلو بك فأسألك عنها؟ فقال له جابر: في أي الاوقات شئت.فخلا به أبي فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة بنت رسول الله وما اخبرتك به أمي أن في ذلك اللوح مكتوباً.قال جابر: أشهد بالله إنّي دخلت على أمك في حياة رسول الله أهنئها بولادة الحسن (عليه السلام)، فرأيت في يدها لوحاً أخضر ظننت أنّه زمرد، ورأيت فيه كتاباً ابيض شبهه نور الشمس، فقلت لها بأبي أنت وامي يابنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هذا اللوح؟فقالت: هذا اللوح اهداهُ الله عزوجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيه اسم أبي، واسم بعلي، واسم ابني، وأسماء الاوصياء من ولدي، فاعطانيه أبي ليسرني بذلك.قال جابر: فأعطتنيه امك فاطمة فقرأته واستنسخته.فقال ابي: فهل لك أن تعرضه عليَّ؟فقال: نعم، فمشى معه أبي حتّى أنتهى إلى منزل جابر، وأخرج إلى ابي صحيفة من رق.قال جابر: فأشهد بالله أني رأيته هكذا، في اللوح مكتوباً:(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله العزيز العليم لمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، نوره وسفيره، وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين، من عند رب العالمين).عظم يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم اسمائي، واشكر نعمائي، ولاتجدد آلائي، اني أنا الله الذي لا اله الا انا، قاصم الجبارين، ومذل الظالمين، ومبيد المتكبرين، وديان يوم الدين، اني انا الله لا اله الا انا، فمن رجى فضلي، وخاف غير عدلي عذبته عذاباً لا اعذبه احداً من العالمين، فاياي فاعبد وعلي فتوكل.اني لم ابعث نبياً فأكملت ايامه وأنقضت مدته إلا جعلت وحياً وأني فضلتك على الانبياء وفضلت وصيك على الاوصياء، وكرمتك بشبليك بعده وسبطيك الحسن والحسين، فجعلت حسناً معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه وجعلت حسيناً خازن وحيي، واكرمته بالشهادة وضمنت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد وارفع الشهداء درجة، فجعلت كلمتي التامة معه والحجة البالغة عنده، بعترته أثيب واعاقب... الحديث) .
الجهاد طريق الشهادة:قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) وهو خطاب للمؤمنين على العموم، صورته صورة العرض، والمراد به الأمر على سبيل التلف في الإستدعاء إلى الاخلاص في الطاعة. والمعنى هل ترغبون في تجارة منجيه من العذاب الأليم، وهو الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس .إنّ اللطف الإلهي ملىءَ السموات والارض وما بينهن وما تحتهن في الدنيا وفي الاخرة، بل لا حدود له ولامنتهى، فضلاً عن عدله تعالى، وفي هذه الاية المباركة بيان للطريق الحق; لكي لايبقى للناس على الله حجة; لانه تقدم في بعض الآيات الشريفة وصف حال المنافقين والكافرين عندما يتجاهلون حججه تعالى; لذلك أنزل سبحانه هذه الآية الكريمة لعلمه تعالى بانهم سوف يقولون لو نعلم أيّ الأعمال أفضل وأحب إلى الله لعملناها، وهذا البيان لايعني الجبر للعباد على أفعالهم، وأنما هو تفضل وارشاد إلى الطاعات، وجعله تعالى بمنزله التجارة لانهم يربحون فيها رضى الله تعالى والفوز الخالد بالجزاء، والنجاة من العذاب الاليم.فإنْ ثبت المؤمنون على السير في طريق الجهاد وتدرجوا في مراتبه بعد مجاهدة أنفسهم في الجهاد الاكبر وترويضها على طاعاته تعالى عندها ستكون على استعداد تام للجهاد والتضحية والفداء في سبيل الله (جلّ وعلا)، وحينئذ يكون الجهاد طريقاً للشهادة، وكما يقول مجاهد الاسلام الاول مولانا أمير المومنين الإمام علي (عليه السلام):(ميدانكم الاول أنفسكم فإن قدرتم عليها كنتم على غيرها أَقدر وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها أعجز، فجربوا معها الكفاح اولاً) .مصداقان في الشهادة مِنْ على أرض كربلاء:لعظم قدر الجهاد ورفعه منزلة المجاهدين وعلوّ مقام الشهداء ومنزلتهم عند ربهم، نذكر مصداقين من المصاديق الواضحة في صدق الاتباع لسيد الشهداء(عليه السلام)في الجهاد; والتي اصبحت طريقاً للشهادة في سبيل الله ونصرة دينه، تبعا لما تقدم منها.
الأول: المجاهد مسلم بن عقيل بين طلب النصرة للحسين (عليه السلام) والشهادة:قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا انصار الله...) .في هذه الآية المباركة حث على نصرة دينه تعالى والوقوف إلى جانب نبيه الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)وفيها ايضاً أمر منه تعالى إلى النبي الأمين بأنْ يدعو إلى هذا الامر، كما دعا اليه عيسى (عليه السلام) عندما قال (من انصاري إلى الله) فأجابه الحواريون نحن أنصار دين الله وأوليائه، حيث صور هذه الحقيقة القرآن الكريم عن لسان حالهم.فدعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنصرة دين الحق ـ الاسلام ـ ، وتبعه الكثير مَمَنْ أخلص في الله تعالى واجابه دعوة رسوله، وكان أول مَنْ لبى تلك الدعوة الإلهيّة أهل بيته(عليهم السلام)، فكان اولهم علي (عليه السلام) وسار على ذلك مِنْ بعدهِ الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، وأقتداءاً به (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا الإمام الحسين (عليه السلام)لنصرة الدين عندما تطلب الامر ذلك، بل جدد دعوت جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). وذلك عندما بعث سفيره وأمين نصرته مسلم بن عقيل (عليه السلام) ذلك الناصر الاول والرجل العظيم الذي لبى دعوته وخرج مِنْ مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)مهاجراً إلى الكوفة في سبيل الله ونصرة دينه وطاعة امام زمانه ـ الحسين (عليه السلام) ـ والذي يدلنا على عظيم قدره ومكانته عند سيد الشهداء(عليه السلام)ماكتبه لاهل الكوفة: (أما بعد... فقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهلِ بيتي، مسلم بن عقيل رأيه رأيي، وأمره أمري، فأطيعوا له...وعندما وصل المجاهد مسلم بن عقيل هناك ـ إلى الكوفة ـ دعا الناس عامة والشيعة خاصة لنصرة سيد الشهداء، وهو يشد فيهم العزيمة على الجهاد ضد الظلم والطغيان للعيش بسلام في ظل الإسلام ولنيل السعادة الأبدية في الآخرة، فَحشدَ حَشداً كبيراً; أجتمعوا حوله وبايعوه على نصرة الإمام الثائر الحسين بن علي(عليهما السلام)فكتب له يخبره، بما جرى في الكوفة، بل يبشره بما حصل ويطلب منه القدوم والتعجيل فيه; لشدة خطورة الموقف الذي أرعبَ الظالمين وأخوفهم على سلطانهم.(أمّا بعد: فإنّ الرائد لايكذب اهله، وقد بايعني أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجل حين يأتيك كتابي، فان الناس كلهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هدى، والسلام) .بعد أن وصلت الدعوة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) بالقدوم إلى العراق، عزم على الخروج مع أهلِ بيتهِ (عليهم السلام)، فخرج (عليه السلام) بكل عزيمة وإصرار لحفظ الرسالة وإنقاذ شيعته المضطهدين.أما الكوفة فلم تبقى كما هي على بيعتها، لان ما حصل ساء يزيد، فولى عليها ابن زياد; لانه كما وصفه الحسن البصري: (غلاماً سفيهاً، سفك الدماء سفكاً شديد) .فعندما دخل أبنُ زياد الكوفة متنكراً، جمع الناس وأخذ يخاطبهم بلهجة الوعيد بسفك الدماء لمن خالف الامير! وتبع مسلم في البيعة، ثمّ رغبّ الآخرين بالبذل والعطاء على أنْ ينصروه، إلى أنْ فرّق الناس عن بيعتهم لمسلم في نصرة الحسين(عليه السلام)، وأخذ يعد العدة باذلاً الأموال لشراء الضمائر وتنفيذ الدسائس; لارهاب الناس وخداعهم، ثمّ طارد مسلم بن عقيل حتّى التقى به جيشه لقاء الباطل مع الحق فوقف أمامهم مسلم (سلام الله عليه) وقفة الرجل الشجاع وقاتلهم قتال الابطال فلم يتمكنوا منه، حتّى أسروه بحيلة الأمان، وأمر أبنُ زياد بضرب عنقه.كل هذا ولم يتغير موقف داعية الاسلام المخلص في الله والناصر لامام زمانه، المجاهد مسلم بن عقيل (عليه السلام) ولاتأخذه في الله لومة، ولم يحصل في نفسه إلا الألم على عدم تمكنه مِنْ إعلام إمامه الحسين (عليه السلام) بما حصل; لاحاطته بالظروف الصعبة التي أدت إلى وقوعه في قبضة أعداء الاسلام، حتّى استشهد صابراً محتسباً ناصراً لدين الله ورسوله مستجيباً أمر أمامه ملبياً نداءَ ربه.وللهِ درّ السيّد مهدي الأعرجي، وهو يصوّر مظلوميّة سفير الحسين، وكيفية شهادة، قائلاً:شَهْمٌ نَمَتْهُ إلى البسالةِ هاشم***والشِّبلُ للأسدِ المُجرَّب ينتميحتّى إذا ما ثخنوه بالضّبا***ضَرباً وفي وسطِ الحَفيرة قُد رُميجاؤا إلى ابن زياد فيه فَمُذْ رأى***للقصْرِ قَدْ وافاهُ غَيْرَ مُسلمِقالَ إصْعدوا للقصْر وارموا جسْمَهُ***ومِنَ الوَريدين إخضبوهُ بالدّمِصَعدوا بهِ للقصْر وهو مُكبَّلٌ***تجّري دماهُ مِنَ الجَوارحِ والفَمِقَتَلوُهُ ظالم لَمْ يُبَلّ فؤادُه***أفديهِ منْ ظامِ الحشا مُتضرّمِدَفَعُوهُ مِنْ أعْلا الطّمارِ إلى الثّرى***فتَكسَّرت منهُ حنايا الأعظم * * *فسلام عليه يوم ولد ويوم هاجر مجاهداً في سبيل الله.وسلام عليه يوم أستشهد ناصراً لدين الله منتصراً بلقاء الله ورسوله والشهداء من أهل بيته.وسلام عليه يوم يبعث حياً.
الثاني: القاسم بن الحسن (عليهما السلام) بين تلبية النداء والشهادةقال تعالى: (وما كُنتُ مُتَّخِذَ المِضلّينَ عَضُداً) .لهذه الاية الكريمة علاقة بنهوض سيد الشهداء، بل هي شعاراً سامياً مِنْ شعارات ثورته الخالدة، فبعد أنْ وعظ الناس وأَتمَّ الحجة عليهم، إِنتقل إلى طلب النصرة; لاحياء دين الله ابتداءاً مِنْ خروجه مِنْ مكة عندما أَبدل حجه إلى عمرة وحتى دخوله أَرضَ كربلاء قائلاً:(مَنْ كانَ باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاءِ اللهِ نفسه فليرحل معنا) .وهناك موقف آخر يوضح علاقة هذه الآية بنصرة الإِمام الحسين (عليه السلام)، وهو عندما إِستنصر سيد الشهداء (سلام الله عليه) ذلك الرجل الجعفي في الطريق إلى كربلاء، فلم يجبه، وعرض عليه سيفه وجواده، فصرف الإِمام وجهه عنه وقال: (اذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالِك، وتلا هذه الاية: (وما كُنتُ مُتَّخِذَ المِضلّينَ عَضُداً)، ولقد سمعت جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: مَنْ سمع داعيتنا اهل البيت ولم يجبه أَكبه الله على منخريه في النار يوم القيامة) .وهكذا استنصر أَهل الكوفة فلم يجيبه أحد بعد الذي جرى مع سفيره وطالب نصرته الشهيد مسلم بن عقيل (عليه السلام)، سوى تلك الثلة القليلة المؤمنة مِنْ أهل بيته واصحابه المخلَصين، الذين قدموا انفسهم دون نفس إِمامهم الزكية.ولقد كان أوّل مَنْ لبى نداء سيد الشهداء ونصره في واقعة الطف، هو الشهيد المتميز عن بقية الشهداء، ألا وهو القاسم بن الحسن (عليهم السلام)، باعتباره لم يبلغ الحلم. كما يروي ذلك العلامة المجلسي قائلا: (خرج القاسم وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم) . بينما كان الشهداء الذين برزوا للقتال مع الإِمام الحسين (عليه السلام) مكلفين بالجهاد لبلوغهم سن الرشد فضلاً عن البلوغ.وهكذا إِستأذن القاسم إِمامه سيد الشهداء (عليه السلام) في القتال فلم يأذن له بذلك ـ كما يذكر اصحاب المقاتل ـ فجلس في جانب من الخيمة حزناً على ذلك، وفي الاثناء ذكر الدعاء الذي كان على ساعده بمثابة التعويذ، وكان ابوه الإمام الحسن(عليه السلام) قد وصاه إِذا إِشتد به الأَمر فعليه أَنْ يفتحها ويقرأ ما فيها فإِذا هو مكتوب:يا ولدي يا قاسم: إِذا رأيت عَمَّك الحسين في كربلاء، وقد أَحاطت به الاعداء فلا تترك البراز والجهاد لاعداء رسول الله ولا تبخل عليه برد منك وكلما ثناك عن البراز عاوده ليأذن لك في البراز لتحظى في السعادة الابدية) .فجاء به إلى عمّه، الإِمام الحسين (عليه السلام) وأخبره بما فيه، وعندها أذن له، فقاتل قتال الأَبطال حتّى سقط شهيداً متميزاً مسروراً بلقاء الله ورسوله مؤدياً لوصية أبيه مدخلاً السرور على روح جدته الزهراء (سلام الله عليها) بنصرة فلذة كبدها الحسين (عليه السلام)، ملبياً النداء لإمامة سيد الشهداء لنصرة دين الله; منتقلاً من ساحة الشهادة إلى روضات الجنة.بَعدَ أن خَرَّ القاسم (عليه السلام) شهيداً، أسرعَ إليه عمه الحسين (عليه السلام)، وإذا به قائم على رأسه; لأنّه عندما وقع على وجه الأرض، نادى: «يا عمّاه».وعندها قال الحسين (عليه السلام): «بُعداً لقوم قتلوك، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدَّك وأبوك، ثمّ قال: «عزَّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يُجيبك، أو يُجيبك فلا ينفعك» .فخرَّ يدعو فَلبّى السبطُ دعوته***فكان ما كان مِنْهُ عِندَ دَاعيهاتَقَشّعتْ ظُلماتُ الخيل ناكِصَةً***فُرسانها عَنَه وانجابَتْ غواشيهاوإذ به حاضن في صَدرهِ قمراً***يُزيّنُ طلعَتهُ الغرّاءُ داميهاوأفي بهِ حاملاً نحو المخيم والآفاق***في وَجههِ خمرٌ مجانيهاتَخُطُّ رجلاهُ في لوح الثرى صُحفاً***الدّمع مَنقطُها والقلب تاليها فسلام عليه يوم ولد ويوم خرج ملبياً نداء الحق ناصراً لسيد الشهداء.وسلام عليه يوم استشهد ويوم بُعث مع جده رسول الله وامير المؤمنين وأبيه الحسن.وسلام عليه يوم يبعث حياً.
خاتمة في الشهادة والشهداء:لِعُظمْ درجة الشهادة في سبيل الله ومنزلة الشهداء.قال تعالى: (الّذين آمنوا بالله ورُسُلهِ أولئك هُمُ الصدّيقونَ والشهداء عند ربهم لهم أجرُهم ونورهم) .إِنَّ المؤمنين حقاً وواقعاً هم الصدّيقون الذين يصدقون القول بالعمل والايمان بفعل الخير وترك الشر، ومعنى هذا أنَّ العمل جزء مهم للايمان ولا إيمان بلا عمل (صلى الله عليه وسلم)والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم(رحمهما الله) العظيم على إِستشهادهم في سبيل الله، وأيضا يتولد من هذا الاستشهاد نور يهتدون به إلى الجنة .فالإِيمان الحقيقي يجب أنْ يتبعه عمل خالص لله (جلَّ وعلا)، وأرفع هذه الأَعمال درجة وأَعظمها هي الشهادة في سبيل الله، لذلك نال أصحابها منزلةً رفيعة عند الله سبحانه وتعالى وهي البشرى والفوز العظيم والخلود في الحياة الأُخرى (بشراكم اليوم جناتٌ تجري مِنْ تحتها الأَنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) .يخرج غداً المخلصون مِنْ قبورهم، ونور الإِخلاص يكشف لهم طريق الايمان، وقبل أنْ يصلوا إلى الغاية يأتيهم النداء: «إبشروا بالجنة» .ولذلك يستبشر المؤمنون بهذه البشرى الإِلهية الناتجة مِنَ الجهاد والشهادة في سبيل الله (فرحين بما آتاهم الله من فضله) وهذا الفرح ناتج مِنَ الإِطمئنان بهذه الدرجة اليقينية للشهادة الحاضرة عندهم; والتي ترفع الخوف عنهم وتبعد الحزن عن قلوبهم المطمئنة برضوان الله(عزّوجلّ) وفضله.ويؤيده، بل يدل عليه قوله تعالى بلا فاصلة: (يستبشرون بنعمة من اللهِ وفضل وأن الله لايضيع أجر المؤمنين) .
اصدارات المجمع العلمي للدراسات الثقافة الاسلامية في النجف الاشرف
https://telegram.me/buratha