صفات العترة الطاهرة (ع) (الصفة الاولى )من تاليف الشيخ الدكتور عباس الانصاري واعداد الشيخ حيدر الربيعاوي والتي يصدرها المجمع العلمي للدراسات والثقافة الاسلامية في النجف الاشرفصفة العلم============
لاشك في ان علم اهل بيت العترة الطاهرة (عليهم السلام) قد تزودوا به من علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهم معدن العلم واهل بيت الوحي وكما قال في حقهم المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)(لاتعلّموهم فأنهم اعلم منكم) وهذا دليل على بلوغهم اعلى درجات العلم والمعرفة.كما لا أشكال ان وارث العلم بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومستودع الرسالة هو أمير المؤمنين (عليه السلام)الذي نشأ في احضان مهبط الوحي ومنبع علم الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)منذ الطفولة ولم يفارقه بل لازمه حتى آخر لحظات عمره الشريف، وهو يتزود من علومه، كما ورد عنه (عليه السلام) (إن رسول الله علمني الف باب، وكل باب يفتح الف باب، فذلك الف الف باب حتى علمت ماكان وما يكون الى يوم القيامة) .ويؤيد هذا العمق العلمي الغزير ما قاله في حقه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):«أنا مدينة العلم وعلي بابها» .وطبيعي ان كل من اراد دخول المدينة كان عليه ان يأتيها من بابها، وأهل البيت(عليهم السلام) اجتموا في هذه المدينة حيث دخلوا من باب الولاية فجمعهم سور الامامة والخلافة الالهية فورثوا العلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق امير المؤمنين (عليه السلام).وبما أنهم نور واحد، كان علمهم علم واحد لاتمايز فيه; إِذ كان عندهم علم ما كان وعلم ما يكون الى يوم القيامة ولازال كذلك، كما كان ذلك عند امير المؤمنين(عليه السلام) قبلهم، ولكن علمهم لاينحصر بما سمعوه من الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء كان بواسطة أو بدون واسطة، وانما كانوا يتمتعون بعلمهم الذاتي ـ اللدني ـ الذي افيض عليهم من الفيض المطلق تعالى.
فيرتفع حينئذ الاشكال:بان اللازم من هذا القول ان يكون علمهم كسبي ـ حصولي ـ فكونهم كسبوا علم من الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لاينافي كون علمهم لدني حصل تكويناً بالعناية الالهية بدون توسط أي شيء من التحصيلات.ويدل على ذلك المروي عن ابي عبدالله الصادق (عليه السلام): «ورب الكعبة ورب البينة ثلاث مرات لو كُنت بين موسى والخضر لاخبرتهما اني اعلم منهما ولانبأتهما بما ليس في ايديهما، لان موسى والخضر (عليهما السلام) أُعطيا علم ما كان، ولم يُعطيا علم ما يكون، وما هو كائن حتى تقوم الساعة وقد ورثناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وراثة» .وبهذا العلم بلغ أهل البيت (عليهم السلام) اعلى درجات التقوى، بل اعلى العلِّيين، وبهما بلغوا مقام الامامة في الصغر ـ اعني قبل البلوغ ـ لما اتاهم سبحانه من العلم والمعرفة والحكمة البالغة (ومَنْ يؤتَ الحكمة فقد اوتي خيراً كثيراً) ليُديروا هذا العالم ويوجهوه باتجاه الطريق الحق والصراط المستقيم، ولهذا فمهما بلغ الانسان من العلم لن يُدرك حقيقة علم اهل بيت العصمة (عليهم السلام).* أقسام العلم: لرفع الشبهات التي قد ترد على ما بيناه ينبغي بيان اقسام العلم بصورة موجزة كمقدمة نصل من خلالها الى علم اهل البيت (عليهم السلام)، وقد قسم العلماء في محله العلم الى قسمين واستدلوا على ذلك بعدة روايات.الأول: العلمُ الكسبي ـ وهو العلم الذي يحصل بتوسط شيء بين المعلوم والعالم به وهذا العلم يقسم ايضاً الى قسمين كما ذكر في علم المنطق:احدهما ـ ضروري: وهو ما لايحتاج في حصوله الى كسب ونظر وفكر وتحصيل فيحصل بالاضطرار والبداهة، والتي تعني المفاجأة والارتجال من دون توقف كتصورنا لمفهوم الوجود والعدم وادراكهما وتصديقنا بأن الكل اعظم من الجزء... وهكذا.وهذا النوع من العلم يحصل من دون امعان نظر وفكر، فيكفي في حصوله ان تتوجه النفس الى الشيء بأحد اسباب التوجه من دون توسط عملية عقلية.الاخر ـ النظري: وهو ما يحتاج في حصوله الى كسب نظر وفكر كتصورنا لحقيقة الروح والكهرباء وغير ذلك، وهذا النوع من العلم لايصل اليه الانسان بسهولة، بل لابد من امعان النظر واجراء العمليات العقلية وهذا يتوقف على التحصيل والدراسة .وعلى هذا يتعين ان العلم الكسبي بكلا قسميه لايمكن اطلاقه على علم اهل البيت، اي انه يختص بغير المعصومين من البشر.الثاني ـ العلمُ اللدني: وهو العلم الذي لايحتاج في حصوله الى توسط شيء بين المعلوم والعالم به بل يحصل تكويناً مباشراً بالعناية الالهية في الصغر بل قبلُه، لذلك فهو من اشرف واعلى مراتب العلم وما دام هذا النوع حاصل عند اهل البيت (عليهم السلام)ولم يَحدُث لغيرهم بعد النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) اذاً هو مختص بهم ولايعلمه غيرهم.وهذا القسم يقسم الى قسمين حسب ما ورد عنهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في بيان ماهيته.فقد ورد عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) عندما وصفه لابي بصير بقوله: «يا أبا محمد ان عندنا والله سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، والله ما يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولامؤمن أُمتحن الله قبله للايمان، والله ما كلف الله ذلك احداً غيرنا، ولا أستبعد بذلك احداً غيرنا وان عندنا سراً من سر الله، وعلماً من علم الله أمرنا بتبليغه فبلغناه عن الله عزّوجلّّ..» .فأن قيل: بان هناك من تحصل لهم علوم بلا توسط شيء سوى بعض المجاهدات الروحية والاعمال والرياضات الروحية فيكون العلم اللدني على هذا المعنى شاملاً لهم، كما هو مذهب المتصوفة.أقول: ان هذا النوع مدفوع بان نفس هذه المجاهدات والرياضات الروحية هي وسائط لتحصيل هذا العلم فيكون اصطلاح اللدني عليه تجوزاً ليس في محله، نعم هو تحصيل من نوع خاص فيكون اكتسابه خاص ايضاً، وعلى هذا يرجع الى العلم الكسبي لا اللدني.
حقيقة علم اهل البيت (عليهم السلام) واقسامه:طبقاً لرواية ابي بصير عن الامام الصادق (عليه السلام)والتي تُعد ضابطة اساسية لحقيقة علم اهل بيت العترة الطاهرة (عليهم السلام)، يمكن تقسيم علمهم الى خاص وعام ومن السياق العام لها يتبيّن لنا انه سرٌ من اسرار الحق تبارك وتعالى فلايدرك حقيقتهُ احداً سواهم إلا الله جل وعلا، لانه علماً من علمه تعالى، مفاض عليهم من قبله تعالى ولاتنافي في ذلك بانه لدني وكونه مفاض بمعنى العناية الربانية.أما بيان اقسامه فيكون على النحو الاتي:1ـ العلم اللدني الخاص: وهذا النوع خاص بهم وله خصائص خاصة بانه لايعلمه احد سواهم، ولم يؤمروا بتبليغه بقرينه «.. والله ما يحتمله ملك مقرب ولانبي مرسل ولا مؤمن امتحن قبله للايمان...».ويدل عليه ايضاً ماورد عن الامام الصادق (عليه السلام): «ان حديثنا صعب مستصعب لايعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل» من خلال هاتين الروايتين نعرف انه لايوجد القابل الذي يمكن ان يتحمله، وقد نصت بعض الروايات انه يحتوي على اسم الله الاعظم.«ان عيسى بن مريم اعطي حرفين وكان يعمل بهما، واعطي موسى بن عمران اربعة حروف، واعطي ابراهيم ثمانية احرف، واعطي نوح خمسة عشر حرفاً، واعطي آدم خمسة وعشرون حرفاً، وانه جمع الله ذلك لمحمد واهل بيته صلوات الله عليهم، وان اسم الله الاعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، اعطي لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) اثنين وسبعون حرفاً، وحجب عنه واحداً» .وسبب الامر بعدم تبليغه هو عدم وجود من لديه العقل والقدرة الكافية على تحمله كما مر في الروايات نعم هناك بعض الاصحاب المخلصين كشف لهم الائمة شيئاً يسيراً من بعضه، كما حصل لسلمان المحمدي ـ الفارسي (رض) ـ فاصبح عنده شيء منه حتى عبر عنه (سلمان منا أهل البيت) بما حصل لديه من المعرفة الالهية وقوة الادراك بمقام الائمة الاطهار(عليهم السلام)، نتيجة الكشف الذي حصل له عن طريقهم، والذي نال به مرتبة عالية من مراتب التقوى والارتباط الحقيقي.ومنه ايضاً ما حصل لانصار الأمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشورا عندما كشف لهم عن شيئاً منه فأراهم منازلهم في الجنة، وهذا إن عبر عن شيء انما يعبر عن مدى قوة ايمانهم وبُعد أدراكهم للحقائق.ويدل عليه قول علي الاكبر(عليه السلام) عندما ضعف حاله عن القتال في يوم الطف، فرجع الى أبيه وطلب منه الماء بعدما اشتد به العطش فقال: (يا أبه العطش قد قتلني فهل الى شربة من الماء سبيل) وعلي الاكبر(عليه السلام)هنا لايريد ان يتراجع أو يؤذي الامام الحسين (عليه السلام)وانما اراد بذلك الاستمرار في الجهاد بكل شجاعة واصرار، فقال له أبيه الحسين (عليه السلام) بعد ذلك:(يابني ارجع الى قتال عدوك) ثم قال ايضاً كلاماً آخر (فسيسقيك جدك بكأسه الأوفر شربةً لاظمأ بعدها أبداً) .وهكذا رجع علي الاكبر (عليه السلام) بهمة عالية وشجاعة فائقة، وأَما الحديث عن شجاعته فكما ان سيد الشهداء (عليه السلام) ورث شجاعة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك علي الاكبر(عليه السلام) ورث شجاعة جده امير المؤمنين (عليه السلام) ـ فعندما ـ سقط على الارض قال:(يا أبتاه عليك مني السلام) .فما اروع تلك الشجاعة في احضان المنية وما اشجع مواقف الشيمة والاحترام لابيه مع ما فيه من الآلم، فاراد بذلك ان يواسي سيد الشهداء (عليه السلام) عندما طلب منه شربة الماء وبدا على ابيه شيئاً ما، فلم يجد طريقاً إلا ان يكشف له عن شيء من علمه بحضور رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في ذلك اليوم وانه سوف يسقي الشهداء في آخر لحظات حياتهم ماءاً كوثراً بكأس الشهادة، لذلك اخبر ابيه الحسين (عليه السلام) بان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حضره وسقاه فقال: (يا أبتاه، هذا جدي رسول الله قد سقاني بكأسه الاوفى شربة لاظمأ بعدها أبداً) .وورد في رواية أُخرى: نّه لمّا شتّتت ضربات علي الأكبر صفوف القوم، فقال مرّه بمن منقذ العبدي: «عليَّ آتام العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ما أراه يفعل، إنْ لَمْ أثكل أباه به».فمرَّ يشدُّ على النّاس بسيفه فأعترضه مرّة بن منقذ فطعنه، وضربه بالسّيف على رزسه ففلق هامته واعتنق فرسه فاحتمله الى معسكر الاعداء وأحاطوا به فقطَّعوه بأيسافهم إرباً إرباً .ثم مضى سلام الله عليه شهيداً محتسباً صابراً.فأتاه سيّد الشهداء (عليه السلام) وإنكبَّ عليه وهو يقول: «قَتلَ الله قوماً قَتَلوكَ، يابُنيَّ ما أَجرأهم على الرّحمن وإنتهاك حُرَمَة الرّسول؟».وانهملت عيناه بالدّموع، ثم قال (عليه السلام): «على الدُّنيا بَعْدَكَ العَفا» .ودُرَّ أبو الحسن التّهامي حيث قال معبراً عن لسان الامام الحسين (عليه السلام) ـ في تلك السويعات ـ مخاطباً ولده علي الأكبر (عليه السلام):يا كَوْكَباً ما كانَ أَقْصَرُ عُمْرهُ***وكْذا تَكُونُ كَواكِبَ الأسْحارِعَجِلَ الخُسوفُ إِليْهِ قَبْلَ أَوانِهِ***فغَشاهُ قَبلَ مظَنَّةِ الأَبْدارِفَإذا نَطَقْتُ فَأنْتَ أوّلُ منطـقـيوَإذا سَكَتُ فَأَنْتَ في مِضْمـارِ لذلك كان هذا النوع من الكشف عن هذا النوع من العلم من مختصات الامام الحسين(عليه السلام)، كما اخبر بذلك سيدنا ومولانا الامام الصادق (عليه السلام) عندما سئله ابي بصير.قال أبو بصير: قلت لابي عبدالله (عليه السلام) من أين اصاب أصحاب علي ما أصابهم مع علمهم بمناياهم وبلاياهم قال: فأجابني شبه المغضب: ممن ذلك الا منهم؟!قلت: ما يمنعك جعلت فداك؟ .قال (عليه السلام): ذلك باب أُغلق إلا أنَّ الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) فتح منه شيئاً يسيراً.وايضاً روي عن الامام الصادق (عليه السلام) بهذا الصدد ـ الكشف الذي حصل لاصحاب الحسين ـ .عن ابن عمارة قال: قلت له (للامام الصادق): اخبرني عن اصحاب الحسين (عليه السلام)وإحكامهم على الموت؟فقال (عليه السلام): انهم كشف لهم الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنة، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر الى حوراء يعانقها، والى مكانه من الجنة .2ـ العلم اللدني العام: وهذا النوع ايضاً خاص بأهل البيت (عليهم السلام) كما ذكرنا في بداية البحث وعُبر عنه بالعام باعتبار انهم امروا بتبليغه اي انه خاص بهم وأمروا باعطائه لشيعتهم.واما كيفية اعطائه وتبليغه فيكون بحسب القدرة العقلية والامكانية في تحمله، فما يمكن لعامة الناس استيعابه وتحمله يبلغ لهم جميعاً.وما لايمكن لهم جميعاً ولايقدر عليه العامة منهم يبلغ لبعضهم، وهذا البعض ايضاً كل حسب قدرته من حيث الامكانية في الادراك العقلي.وعلى هذا يكون تبليغ هذا العلم على مراتب، كما أن هذا المعنى في تقسيم هذا النوع من علمهم الى نوع عام يبلغ لجميع الناس وآخر لبعضهم وارد في حياتهم بل في اجوبتهم لذلك نجد امير المؤمنين (عليه السلام) يعطي جوابين لسؤال واحد عندما سُئل عن وجه الله.ففي معرض الجواب الاول قال: (انا وجه الله) .وفي معرض الجواب الثاني عندما سألوه قال: (أوقدوا لي ناراً، فلمّآ اوقدوها، قال لهم قولوا لي اين وجه الله؟فقالوا كل النار وجه النار.قال (عليه السلام): كل شيء وجه الله!ومن الواضح كما تقدم بيانه، ان علم اهل البيت (عليهم السلام) واحد.فما كان عند الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عند أمير المؤمنين وعند الحسن والحسين (عليهما السلام)وهكذا حتى نصل الى ولي الله الاعظم وحجته على العالمين الامام الحجة بن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لانهم عندهم علم ما كان وما يكون.فعن حذيفة قال: (سمعت الحسين بن علي يقول: والله ليجتمعنَّ على قتلي طغاة بني امية ويقدمهم عمر بن سعد، وذلك في حياة النبي.فقلت له: انبأك بهذا رسول الله؟قال (عليه السلام): لا.فقال: فأتيت النبي فأخبرته.فقال: علمي، علمه وعلمه علمي لأنا نعلم الكائن قبل كينونته)
* العلم الغيبي للإمام الحسين (عليه السلام) بواقعة كربلاء قبل وقوعها وعلاقته بإلقاء الحجّة على الأعداءإنَّ لعلم الأمام الحسين (عليه السلام) الغيبي بواقعة كربلاء، وحدوث مصيبتها الكبرى ـ منذ نِعومة أظفاره (صلوات الله عليه)، وفي محضر جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما عرفت ـ علاقة وثيقة بإلقاء الحجة على أعدائهِ، فلسابق علمه (عليه السلام) بما سوف يحدث في كربلاء من مصائب وفجائع، حاول أمامنا الكريم الحسين بن علي (عليهما السلام) أن يلقي الحجة على بني أمية، لينقذهم مما هم فيه من الاصرار على قتله وآل بيته واصحابه (عليهم السلام)، فخطبهم مبيناً لهم نسبه الشريف وحسبه، ومكانته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لعل ذلك يفيد في اصلاحهم وهدايتهم من خلال التراجع عن قراراتهم الجائرة، ليس خوفاً منه (سلام الله عليه)، وإنما حرصاً على الامة من التمزق والانحراف الذي سوف يحصل من بعده، نتيجةً للاقدام على قتلِهِ.فقد أورد له المؤرخون وأهل السير وأصحاب المقاتل خطباً عندما خرج، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه الشريف، فوقف أمام القوم، قائلاً:يا قوم إن بيني وبينكم كتاب الله وسنة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).ثم قال (عليه السلام): أنشدكم الله هلْ تعرفونني مَنْ أَنا؟قالوا: أنت ابن رسول الله وسبطه.قال (عليه السلام): أنشدكم الله هل تعلمون إنَّ جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟قالوا: اللّهمَّ، نعم.قال (عليه السلام): أنشدكم الله هل تعلمون إنَّ أَبي علي بن أبي طالب؟قالوا: اللهمَّ، نعم.قال (عليه السلام): أنشدكم الله هل تعلمون إنَّ جدتي خديجة بنت خويلد؟قالوا: اللهمّ، نعم.قال (عليه السلام): أنشدكم الله هل تعلمون إنَّ سيد الشهداء حمزة عم أبي؟قالوا: اللهمَّ، نعم.قال (عليه السلام): أنشدكم الله هل تعلمون إنَّ سيّد الشهداء حمزة عمَّ أبيّ؟قالوا: اللّهمَّ، نعم.قال (عليه السلام): أنشدكم الله هل تعلمون إنَّ الطيار في الجنة عمي؟قالوا: اللهمَّ، نعم.قال (عليه السلام): أنشدكم الله هل تعلمون إِنَّ هذه عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا لابسها؟قالوا: اللهمّ، نعم.قال (عليه السلام): أنشدكم الله هل تعلمون إن علياً كان أوّل القوم اسلاماً، واعلمهم علماً، وأعظمهم حلماً، وإنّه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟قالوا: اللهمّ، نعم.قال (عليه السلام): فبمَّ تستحلون دمي؟، وأبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالاً، كما يذاد البعير الصادر عن الماء؟قالوا: قد علمنا ذلك ونحن غير تاريكيك حتى تذوق الموت عطشا.فقال (عليه السلام): تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهين، فاصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في الايمان، وحششتم علينا ناراً إقتدحناها على عدونا وعدوكم فاصبحتم الباً لاعدائكم على أوليائكم... فسحقاً لكم يا عبيدَ الامة، وشذاد الاحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الأثم، ونفثة الشيطان، ومطفىء السنن، ويحكم أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟!!!...... وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أنْ نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألاّ وأنيّ زاحف بهذه الاسرة، على قلة العدد، وخذلان الناصر.أنظر أيها الموالي، أيُّ كرم هذا، وأيُّ شجاعة هذه، أليس هذا الموقف في قمة الأباء والعزة وكمال الانقطاع لله والاخلاص له، في قبال جمع الاعداء الغفير لنصرة الباطل؟!.وبعد كلام طويل، ودعاء سديد له (عليه السلام) على إذلال أَصحاب الباطل وأَعوان بني أمية.. تقدم (عليه السلام) نحو القوم بعد أن أُستشهد أصحابه وأهل بيته، مصلتاً سيفه، فدعا الناس الى البراز، فلم يزل يقتل كل من برز إليه، حتى قتلَ مقتلةً كبيرةً منهم، فصاح عمر بن سعد (لع):هذا ابنُ الأنزع البطين، هذا ابن قتال، إحملوا عليه من كل جانب; فصوبت نحوه السهام، وسلت عليه السيوف، وأحاط به الاعداء، فحمل (عليه السلام) على الميمنة حملة ليث مغضب مثخناً بالجراح، وهو يقول:الموت أولى من ركوب العار***والعار أولى من دخول النارأنا الحسين بن علي***آليت أنْ لا أنثنيأحمي عيالات أبي***أمضي على دين النبيتطاير العسكر من بين يديه، واتجهوا نحو الخيام، وحالوا بين حرمه، فصاح بهم:ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان، إنْ لم يكن لكم دين، وكنتم لاتخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا الى احسابكم إنْ كنتم عرباً كما تزعمون.فناداه شمر: ما تقول يا ابن فاطمة؟فقال (عليه السلام): أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح، فأمنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حياً.فال الشمر (اللعين): لك ذلك، قصده القوم من كل جانب، وأفترقوا عليه أربع فرق من جهاته الأربع...ووا أسفاه حملوا عليه***من كل جانب أتوا إليه قد ضربوا عاتقه المطهرا***بضربة كبا لها على الثرىالى أنْ هوى روحي فداه على الثرى***لقى مثخنات بالجراح جوارحهولما أتى فسطاطه المهر ناعيا***له استقبلته بالعويل صوائحهوجئن له بين العدى ينتدبنه***بدمع جرى من ذائب القلب سافحهويعذلن شمرا وهو يفري بسيفه***وريديه لو أصغى الى مَنْ يناصحهعزيز على الكرار أنْ ينظر ابنه***ذبيحاً وشمراً ابن الضبابي ذابحهوعترته بالطف صرعى تزورهم***وحوش الفلا حتى إحتوتهم ضرائحه
اصدارات المجمع العلمي للدراسات والثقافة الاسلامية في النجف الاشرف
https://telegram.me/buratha