زهراء محمد - ويلز- المملكة المتحدة
ما طوته ذاكرة أشجار
«إنما الاشجار المثمرة هي التي ترمى بالحجارة» مثل أجنبي
***خرجنا في ذاك اليوم المشمس من نهاية الاسبوع نمشي في تلك الغابة الكثيفة باشجار باسقة معمرة، ربما تناطح أعمارها مئات قليلة من السنيـن..اقف تحت ظلالها.. روحي تناجيها: يا ترى كم من بشر مشى جنبك وإلتجا الى ظلالك وكم من اجيال سردت قصتها لك.. وكأن الله خلقها لتكن ضمن ما تكن ونيساً لنا نحن البشر أيام الضيق، لنمتع بها أنظارنا، ولترتاح الى منظرها النفوس ويخف إضطرابها حيـن الملمات، تلجأ الى جذوعها ظهور الفلاحيـن حيـن يهدهم تعب الحقل والزمان، تزحف على فروعها وأغصانها مرح وشقاوة طفولاتنا.. كل ذلك إنها وبمجامعيها الاشجار هي أيضا رئة الارض، ومتنفس روح البشر.. تسمع إلينا، لا تمل من ذلك!!!! ويا ترى هل سمعتم بقصتي.. ذاك الطوفان الذي الذي سرق احبتنا وغيّبهم في ذاك المجهول... سرت في تلك الغابة الكثيفة مع ابنائي اسرد لهم حلو ايامنا، فكان لنا في كل فصل وموسم حلو ذكريات، احكي لهم وعيوني على تلك الاشجار فهن رفيقات عمري بعد ان فقدت مثلهن عزيزات على قلبي على يد طاغية دموي في عراقنا.. اتذكر اشجارنا، كم كانت هي جميلة.. وكم فيها من لحاظ وصل لا ينبرم.. ولكن؟؟.. لماذا؟؟ في بلدي كانت الاشجار تُزال؟؟ أهو الخوف من ان تسرد ما رأت؟؟ فتلك نخيل الجنوب كانت تروي تاريخ البصرة والجنوب وإباء أهلها فصارت ترعب الطاغية وتقض مضجعه فأمر ببتر معظمها، فاصبحت بساتيـن البصرة والجنوب موحشة وقاحلة تشكو ظلمها للاجيال القادمة وغدت جذوع بلا رؤوس؟؟ كم من ذكريات لنا إحتظنتها ظلال أشجارنا تلك وأيضا تلك أشجار حديقتنا دنسها طغاة عتاة بعد أن هدّوا ذلك البناء الجميل الذي كان بيتنا!!!.وصدق المثل القائل بأن: « إنما الاشجار المثمرة هي التي ترمى ترمى بالحجارة» نعم تلك الاشجار هي أيضاً لم تسلم من عتاوة الظالميـن وكأنهم يقتصون من جذوعها وأغصانها ومن ظلالها ونسغها الصاعد والنازل وهي تنقل غذاء الذاكرة وروائح تاريخها..
نعم إن تلك أشجارنا كان من ثمارها جميل ذكرياتنا... اتذكر عند رجوعي للعراق لاول مرة نظرت من الخارج الى بيوتنا الحزينة لم أر اشجار الراسقي، أو ورود الجهنمي الاحمر أو الابيض التي كانت تتدلى من على أسوار بيتنا وتضفي عليه ألوانها الزاهية، أو أشجار التكي (التوت) الابيض والتكي الاحمر، أما أشجار النبك العالية فقد اقُتلعت.. وما تبقى من اشجار البرتقال والسندي فقد غطا غبار سميك أوراقها فغدت مصفرة بلون التراب، الظاهر إن الذين يحتلون بيوتنا ليس لهم وقت لسقيها والعناية بها!!!.. في صغرنا كنا نلعب في حدائقنا وعلى أغصانها نتسلق ونجلس، وعند الجوع، نأكل من ثمارها الطيبة.. الطيور بانواعها مثلنا تنتقل من شجرة الى أخرى، اتذكر زقزقتها في الفجر وهي يمكن تؤدي تسابيحها وصلواتها، وفي المساء صوت العصافير عائدة الى اعشاشها بلحن جميل. كنا نلعب انا وأخوتي وبنات اعمامي، وعند العصرية نغسل الطرامي ونرش الحدائق بالماء، منذ صغري كنت احب ان اسقي الاشجار. عند المسيات نجلس في الحديقة بعد ان تسقى بالماء ليفوح منها عبق أزهار الراسقي والداوودي، ولكن «البك» او البعوض ينغص تلك الجلسات المسائية الجميلة، الخفايش تحلق بسرعة هنا وهناك، حينها كنا نخاف منها لشكلها المرعب.. لكن خلافها كان طائر البومة الجميل كان يطير ببطء وزهو مفرداً جناحيـن كبيرتيـن.. أتذكر جدتي تأمرنا بأن نغمض عيوننا حيـن تأتي البومة؟! لا اعرف لحد هذه اللحظة لماذا كانت تطلب من ذلك غير ما يتناقله الناس من صلة سوء الطالع بطائر البومة.. وورد الجهنمي بالوانه الزاهية على بلكونات وجدران بيتنا. أتذكر امي رحمها اللّه تحضر شربت الامام حسيـن عليه السلام (أيام محرم) الى جنب أشجار الجهنمي تلك.. والجميع حولها منهمك في المساعدة.. ذاك «الشربت» الوردي المائل الى الصفرة يحليه سكر مضافاً اليه نكهة فريدة من الهيل وماء الورد، ليتسرب فيه مذاقاً سحرياً ما زال يحتل ركناً في ذاكرة تسترجعه كلما قدمت علينا أيام عاشوراء.
***
من حيـن لآخر استمع الى محطات راديو لاستمتع بقصص وغرائب مختلف الشعوب.. فقبل ايام استمعت الى قصة حقيقية على BBC الرابعة اجرت مذيعة انكليزية مشهورة (ليزدوست) مقابلة مع احدى الشخصيات الافغانية المعروفة وهو مسعود الخليلي.. سفير افغانستان الحالي في اسبانيا وهو يسرد قصة اغتيال صديقه السياسي والشخصية الافغانية احمد شاه مسعود قبل سنوات قليلة، حيـن أرسل بن لادن صحافيان من الشباب العرب كانت معاطفهم وآلات تصويرهم محملة بقنابل بحجة اجراء مقابلة صحفية لهم!!.. (فجرهوها حالما دخلوا الغرفة، حيث قتل احمد شاه مسعود على الفور يوميها)سألته المذيعة: كيف نجيت من تلك الحادثة؟ وجسمك كما وصفه الجراح الالماني كان كالليل مليء بالنجوم (إخترقت جسده 1400 شظية)، فانه لليوم لا يزال 300 شظية منها غائرة في جسده، بعد أخرج الجراحون ما إستطاعوا منها. السفير خليلي يسأل المذيعة: ولكن عنك انتِ هل تؤمنيـن بالقدر؟... ترد ضاحكة: كلا.. ويسترسل قاصاً: ولكني أومن به إيماناً شديداً، قبل ليلة من إغتيال صديق عمري احمد شاه مسعود كنا نتجاذب الاحاديث لحد الفجر.. ليلتها قدّم لي مسعود جواز سفر أفغاني كان إستحصله لي، فقلت له لا أحتاجه ولا أريده، لكنه ألح عليّ إلحاحا شديداً، وأنا أوكد له رغبتي بعدم مغادرتي بلدي أفغانستان أبداً، يضيف السفير بان مسعوداً حشر ذاك الجواز (البسبورت) في جيبي الايسر بالقوة؟؟.. وشاءت الاقدار الالهية بان ذاك البسبورت الذي حشره في جيبي الايسر هو الذي حمى قلبي من الشظية من أن تصل إليه، وجعلني اعيش اليوم.. حيـن كنت في المستشفى أعطتني زوجتي ذاك البسبورت الذي إحتضن الشظايا التي كانت في طريقها الى قلبي!! أما مسعود شاه فلم يلهمه قدره بأن يستحصل لنفسه جوازاً كذاك الذي إستحصله لي!!!!!
***
اقول نعم القدر يعمل بطريقة لا يعيها البشر .. أما نحن فلم يسعفنا حظاً مماثلاً للسفير الافغاني حين أبى القدر ليلة القبض علينا إلاّ أن يجمع الاحبة من شتى الاماكن في يومها، وقتها هل حان أجلهم ام ماذا ياترى؟؟ والا كيف تفسر رجوع أخوتي واولاد عمومتي من مدن ودول أخرى الى بغداد في اليوم ذاته!! فمنهم من كان جندياً في معسكره خارج بغداد وحصل على إجازة، ومنهم من نزل الى بغداد من جامعاتهم خارج بغداد ومنهم من أخذ إجازة من عمله في أقصى جنوب العراق في الفاو ليقعوا جميعهم في يد قدر تربص لهم!!! وهل يا ترى كان ذاك هو توقيتاً مخبئاً لموتهم الجماعي؟؟قبل أسابيع من القبض علينا رأيت في منامي إني كنت مع والدتي في حرم الامام موسى الكاظم (عليه السلام) مرتدية ثوبا طويلاً ، كانت ارضية الصحن مغطاة بدماء كثيرة واناس مذبّحة. رفعت حافة ثوبي قليلاً خوفا من ان تتلطخ بالدماء، وبعدها خرجنا من الصحن لأرى افعى تخرج من الارض وترتفع نحو السماء لتنشطر الى قسميـن .. وكنا مع مجموعة نردد ذكر اللّه، ولندخل مسجداً حيطانه مهدمة، سور قرآنية على الجدران، لتظهر فجأة دودة غريبة ولتأكل كل تلك الكلمات القرانية الا كلمات «فتحاً مبيناً» .. ولكني حينها انتبهت بعدها الى حافة ثوبي فقد كان كله دم... بعدها سألت بعض الاصدقاء عن تفسير ذاك الحلم، قالوا: ستفقدين أعزة على قلبك.. ولعل تلك الدماء في صحن الامام موسى الكاظم(ع) قد تكون دماء إخوتي.. ومذابح أقدم عليها النظام أيام الثمانينات وبعدها بحق شيعة الامام موسى الكاظم (ع). اعود لمسعود الخليلي يقول في تلك الليلة بقينا انا واحمد شاه حتى الثالثة والنصف صباحاً نتصفح في كتاب سعر وجداني ويعتقد به الافغان.. اي يأخذون الفال منه!..يقول احمد شاه لمسعود افتح ذاك الكتاب واقرأ لنا بعضاً منه، يقول كلم ما قرأناه يوحي بأن ليلتنا تلك هي آخر ليلية لنا معا؟؟ وإن أحدنا سوف لن يرى صاحبه الآخر !! وحصل ذلك فعلاً على يد رسل بن لادن!!!! سؤالي هنا: هل إن الانسان يعلم بنهايته؟؟
***
ابراهيم أخي عند رجوعه للبيت ذلك اليوم عائداً من جامعته خارج بغداد وعلى غير عادته.. سألته أمي تكرارً ابراهيم لماذا رجعت للبيت؟..دموع تملء عينيه، لا يحير جواباً غير تمتمات يؤكد لها باضطراب إشتياقه لرؤيتها.. يا ترى هل كان يعلم بنهايته ام ماذا؟؟اما اخي الصغير زهير، فقبل اسبوع من تهجيرنا كان كالظل لأمي، يتبعها في البيت أينما ذهبت، جنبها معظم الوقت، يقبل يدها ويقبل رأسها فكانت امي تبكي ونحن لا نفهم مايدور حولنا... وحتى عند سجننا في امن الكاظمية ليلتها حتى صباحها كنت اسمع بكاء زهير.وذاك إبن عمي صالح رجع في إجازة من معسكره خارج بغداد ليزور أهله في نفس الوقت !!وهذا إبن عمي الآخر علاء كان يعمل في أقصى الجنوب العراقي ليرجع مشتاقاً هو أيضاً لرؤية أمه ليخطفه القدر معهم أما ماجد إبن عمتي فساقه الدهر قافلاً به من بعيد.. بعد ان كان خارج العراق في اوروبا، ليعود ويقع في قبضة عتاة لا يرحمون وو.. كلهم عادوا في نفس الوقت كطيور مهاجرة عادت لاوكارها لينتظرهم جلاد شقّي!!!كم هو موجع تلك الخطوات التي قطعتها أقدامكم لتلاقوا حتوفكم، وما أقسى ذلك الدهر الذي تربص بكميقول مثل: «إلى حتفي مَشَتْ قدمي»..نعم مشت بكم الى حتوفكم خطوات أقدامكم في أروقة دهر سرعان ما قصرت؟..
المتنبي مخاطبا الدهر ورزاياه:
وَأيّ رَزاياهُ بوِتْرٍ نُطالِبُلأيّ صُرُوفِ الدّهْرِ فيهِ نُعاتِبُمَضَى مَنْ فَقَدْنا صَبرَنا عند فَقْدِهِ وقد كانَ يُعطي الصّبرَ والصّبرُ عازِبُ
أما نحن فعيل صبرنا .. نخطوا خطى الى قدر ينتظرنافكلّت قلوبنا قبل أقدامنا ننتظر لـ وفينا دفيـن حزن نغالب .. لدهر (أعتم من ظلمة ليل) نعاتب
زهراء محمد
https://telegram.me/buratha