سماحة السيد حسين الصدر
ما أحلى العدلتُداعب أحلام الناس ، عبر أمتدادات الزمان والمكان طيوفُ الحياة الهانئة، الحافلة بعبق العدل ، وعطر الكرامة ...وحين يشيع العدل في الأمة ، يعظُم تقديرها لحكّامها ،ويتعمق لهم الولاء في النفوس ،ازاء ما وفّروه من أجواء ومناخات تَهّزُ أوتار القلوب ....ولكّن تاريخنا بشكل خاص ،شحيحٌ بمثل أولئك الحكّام ،وضنين بمثل تلك الفترات الواعده ،مع أننا "خير أمة أخرجت للناس "وتشكّل تلك الظاهرة علامات استفهام كبرى تتحدانا انتظاراً للجواب المقنع :وليس الخلل في المنهاج المرسوم وفق صياغة ربانيه تخرجنا من الظلمات الى النور .انما يكمن الخلل في الممارسات المشوبه بالألتواء والانحراف ، والمشبعة بالاهواء والمصالح ،ممن ابتزوا الأمة حقوقها ،وحادوا عن النهج الأمينوليست الأمةُ منزّهةً عن التهاون والتقصير في حقها ،وفي الدفاع عن مقدساتها في كثير من الأحيان ...ولا نريد ان نلج الآن في التفاصيل ،فالبحث في هذه المسائل شائك طويل، والتضاريس والمنعرجات في الطريق كثيرة ومرعبة ..!!المثال التاريخي : وتحدثت بعض المصادر الأدبية والتاريخية ، ان وفوداً من المهنئين جاءت الى عمر بن عبد العزيز ومنها وفد الحجاز .ونظر عمر الى فتى صغير السن كان يهّم بالتكلم فقال له (ليتكلم مَنْ هو أسن منك ،فانه أحقُّ بالكلام منك )قالها جرياً على العادة في تقديم الكبار على الصغار ،حيث أنّ توقير الكبار واحترامهم من اللياقات والأداب .الاّ ان الفتى الصغير الذي أراد الكلام فاجأ الخليفة بالقول :( لو كان القول - كما تقول - ، لكان في مجلسك هذا مَنْ أحقّ منك )وهنا أُحرج الخليفة فقال :صدقتَ ، فتكلّم فقال متحدثُ القوم ،الصغير سنّاً ، والكبير عقلاً :( انّا ما قدمنا عليك رغبةً منّا ، ولا رهبةً منك :أمّا عدم الرغبة ، فقد أمنّا بك في منازلنا وأمّا عدم الرهبة فقد أمنّا جورك بعدلك فنحن وفدا الشكر والسلام )هذا المتحدث الصغير ، كان بليغاً للغاية ، وقد وضع النقاط على الحروف وعبّر ببضع كلمات عن حقائق سياسية واجتماعية لا يرقى اليها الشك.ان الامة في ظل الحاكم العادل لا تنطلق في مساراتها من موقع الخوف والرهبة من الحاكم .كما لا تنطلق من موقع الملق والمجاملة بغية كسب الرضا ،وتليين المواقف ، انها تتجاوز كل تلك الحدود الضيقة ، لتنطلق من موقع التقدير والثناء والشكر للحاكم على عدله ونزاهته ورعايته للمصالح العليا .وهذه هي غاية الغايات سياسياً وانسانياً واجتماعياً .ولقد قدّر للشعب العراقي اليوم ان يبعث بالوفود الى المسؤولين ، فماذا تراهم يقولون ؟هل يحّق لوفد من الوفود ان يتغاضى عن سوء الخدمات ، وتفاقم البطالة ، ومشكلات البطاقة التموينية ، والثغرات الأمنية التي ترّوع المواطنين باستمرار بالكوارث والفواجع ؟!وهل يسعه ان يغض النظر عن الممارسات الفجة لمعادلات ما أنزل الله بها من سلطان تعتمد المحاصصه وتنبذ المواطنه ، الى سيل متدفق لا يكاد ينقطع من عمليات القرصنة والسلب والنهب والاستحواذ على المال العام ،وقد وصل الى حدّ تسجيل عقارات الدولة ، بأسماء شخصية ، الى كثير من المفردات المحزنه التي دفعت بكثير من العوائل العراقية الى الهجرة من الوطن ..!!ان نصيب الصادقين الإعراض والأهمال والتهميش .واما الوفد الذي يُزَغْرد بالثناء الكاذب ويشيد بالانجازات الموهومه فانه يلقى التكريم والحفاوة ، لابل تعد العدّة لاستقبال مثل هذه الوفود ..!!وتلك هي أحدى المفارقات الكبرى في أوضاعنا الراهنه .ان الذاتيه والفئوية وكسب الامتيازات ، على حساب الفقراء والبائسين، بل على حساب عامة المواطنين أصبحت هي الصبغة العامة التي تلف الهيكل الوظيفي الرسميّ بأسره وهذا مؤشر خطير على عمق الاستخفاف بالشعب وجراحه وآلامه وأتعابه ومعاناته .ان العراقيين - صغاراً وكباراً - لو أُريد استنطاقُهم لما تجاوزوا الحديث عن أزماتهم الخانقة ، وحياتهم البائسة في ظل غياب الكهرباء ، واستمرار الوعود الجوفاء .... واللامشروع من الثراء الفاحش ، والتخمه الرهيبة على حساب الجياع ، وامعانا في تأزيم الأوضاع ..!!وعلى أية حال فان عمر بن عبد العزيز قد راقه الفتى المتحدث بأسم وفد الحجاز وأعجب به غاية الأعجاب فقال له :( عظني يا غلام )انه ليس مجرد تواضع ، بل هو التواضع المصحوب بالتطلع الى الأفادة ، من هذا الصغير الكبير ، الناطق بكل صدق وحرارة واخلاص .ولم يتخلف الفتى عن الاستجابة للطلب فقال :( إن اناساً غرّهم حلم الله ، وثناء الناس عليهم فلا تكن ممن يغرّه حلم الله وثناء الناس ،عليه فتزل قدمُك ، وتكون من الذين قال الله فيهم :( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون )فنظر عمر في سنّ الغلام ، فاذا له اثنتا عشر سنة ، فأنشد عمر :تعلّمْ فليس المرء يُولد عالماً وليس أخو علمٍ كَمَنْ هو جاهِلُ فانّ كبير القوم لا عِلمَ عندَه صغيرٌ اذا التفّتْ عليه المحافِلُوعامة المسؤولين اليوم ، لا يرون أنهم بحاجة الى موعظة أو تعلّم من كبار العلماء فضلاَ عن الفتيان وتلك محنة أخلاقية أخرىان الغرور والعُجْب من أكبر الآفات ومن أخطر الأمراض والعلل ،وهي في الحكام أخطر منها في غيرهم .
حســـين الصـــدر
https://telegram.me/buratha