حيدر محمد الوائلي
كان هناك أحد السجناء في عصر الملك لويس الرابع عشر محكوم عليه بالإعدام ومسجون مؤقتاً في جناح من أجنحة قلعة الملك، ولم يبق على موعد إعدامه سوى ليله واحده فقط...!!
ويروى عن الملك لويس الرابع عشر ابتكاره لحيل وتصرفات غريبة، ففي تلك الليلة فوجئ السجين بباب سجنه يفتح والملك يدخل عليه مع حرسه ليقول له: (أعطيك فرصة، فإن نجحت في استغلالها فبإمكانك إن تنجو، حيث أن هناك مخرج موجود في سجنك وهو سيظل بدون حراسة، فإن تمكنت من العثور عليه يمكنك الخروج وأنت حر، وإن لم تتمكن فان الحراس سيأتون غداً مع شروق الشمس لينفذوا بك حكم الإعدام...!!)
غادر الملك وحراسه جناح السجن تاركين السجين بعد أن فكوا سلاسله ليغتنم هذه الفرصة الذهبية مستغلاً غرابة أطوار الملك...بدأ السجين يفتش في الجناح الذي سجن فيه والذي يحتوي على عده غرف وزوايا ولاح له الأمل عندما اكتشف غطاء فتحة مغطاة بسجادة بالية على الأرض وما أن فتحها حتى وجدها تؤدّي إلى سلّم ينزل إلى سرداب سفلي ويليه درج أخر يصعد مرة أخرى، وظل يصعد إلى أن بدأ يحس بتسلل نسيم الهواء الخارجي مما بث في نفسه الأمل إلى أن وجد نفسه في النهاية في برج القلعة الشاهق والأرض لا يكاد يراها فعاد أدراجه حزينا منهكاً ولكنه واثق أن الملك لم يخدعه...
وبينما هو ملقى على الأرض مهموم ومنهك ضرب بقدمه الحائط وإذا به يحس بالحجر الذي يضع عليه قدمه يتزحزح قليلاً، فقفز وبدأ يحرك الحجر فوجد أن بالإمكان تحريكه وما إن أزاحه وإذا به يجد سرداباً ضيّقا، فبدأ يزحف الى ان بدأ يسمع صوت خرير مياه وأحس بالأمل لعلمه إن القلعة تطل على نهر لكنه في النهاية وجد نافذة مغلقة بالحديد، فعاد يجرب بكل حجر وبقعة في السجن ربما كان فيه مفتاح حجر آخر لكن كل محاولاته باءت بالفشل...
الليل يمضي ولا زال السجين يحاول ويفتش، وفي كل مرة يكتشف أملا جديداً فمرة ينتهي إلى نافذة حديدية، ومرة أخرى إلى سرداب طويل ذو تعرجات لا نهاية لها ليجد السرداب أعاده لنفس الزنزانة...!! وهكذا ظل طوال الليل يلهث في محاولات وبوادر أمل تلوح له مرة من هنا ومرة من هناك وكلها توحي له بالأمل في أول الأمر لكنها في النهاية تبوء بالفشل وحتى انقضت ليلة السجين كلها ولاحت له الشمس من خلال النافذة ووجد وجه الملك يطل عليه من الباب ويقول له: (أراك لازلت هنا)...!!فقال السجين: (كنت أتوقع انك صادق معي أيها الملك).قال له الملك: (لقد كنت صادقا بالفعل).أجاب السجين مستنكراً: (لم اترك بقعة في الجناح لم أحاول فيها، فأين المخرج الذي قلت لي أنه موجود)...؟!قال له الملك: (لقد تركت باب السجن مفتوحاً وغير مغلق)...!!لم يجرب المسكين محاولة فتح باب السجن رغم أنه أمامه...!!
الدرس من هذه القصة الجميلة هو أن كم نترك مئات الحلول والحقائق واضحة أمامنا ولكنا نشتغل بالتفكير بحلول واهية وضعيفة وصعبة ومعقدة، ومن ثم نيأس بسرعة ونستسلم...!!وهنالك من لا يجرب الحل أصلاً وبالرغم من ذلك يقول أنه صعب أو مستحيل، بالرغم من إن لكل مشكل حل...
قيل في أحد تفاسير سبب عقاب الله لبني إسرائيل في قصة ذبح البقرة المعروفة هو أن الله عاقبهم لأنهم شددوا وعقدوا الأمور على أنفسهم، فالله تعالى فقط أمرهم أن يذبحوا بقرة...أي بقرة...!! لا تعقيدات...!!(وإذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) آية67/سورة البقرة...فأول مرة قالوا تتخذنا هزواً، أي أتستهزئ بنا رغم أنه نبي، وهم أظهروا الإيمان به...ومرة ثانية طلبوا منه أن يبين ما هو نوع البقرة...؟!ومرة ثالثة سألوه ما هو لونها...؟!وبعدها سألوه مرة رابعة أي نوع من الأبقار الصفراء فهي متشابهه...!!وفي كل مرة يجيبهم نبي الله موسى (ع) ومن بعدها وجدوها فذبحوها عن كره وغصب وجريمة ليعذبهم الله على أثرها والسبب في ذلك قصة أخرى ابتلاهم الله بها على أثرها...!!
عقدوا وصعبوا الأمور على أنفسهم فصعبها وعقدها الله عليهم فهو علام الغيوب، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور...
خذ مثالاً حول ذلك ممن يهوّل ويصعّب الأمور السياسية والدينية والاختلاف الطائفي رغم أن هنالك حلول بسيطة منها أن يحترم كل من يخالف من يختلف معه ويقدس الاختلاف خصوصاً أن جميع مبادئ الدين والعلمانية تحترم الاختلاف مع بقاء إيمان كل شخص بما يؤمن به عن دراسة وبحث لا تقليد أعمى وتلقين أو أن ما فيه من فكر ودين وعقيدة قد ورثه عن أبيه...
والمشكلة أنهم يجرون معم الناس في مشاكلهم فتتحول منهم إلى الناس وعند حلها فيما بينهم يبقى أثرها بين الناس مؤثراً...ومن الناس من يلعن الوضع والطائفية والفساد والظلم والحكم الفردي ومصادرة حقوق الشعب وكأن هؤلاء الناس لم يكونوا طرفاً بالموضوع...بتصرفهم الغير مدروس أو الموجه توجيهاً أعمى دون تفكير...أو على الأقل بسكوتهم في مواقف لا يصح السكوت عنها فيما مضى واليوم...
ومثال آخر حول حالة (الإدمان) والاستسلام لها واستصعاب كل الحلول، كالإدمان على المخدرات أو التدخين أو الكحول أو الجنس (الزنا، الاستمناء، إدمان متابعة المواقع والقنوات الإباحية) أو إدمان العادات السيئة فجميعها مشاكل (إدمان)...لكل مشكلة حل، والحل أمامك فقط تكرم بالنظر إليه، ومن ثم الإيمان به...
لنتفق أولاً أنها جميعاً عادات سيئة، فمن المهم أن تؤمن بأنها سيئة...سيؤدي الإدمان على العادات السيئة لحصول صراع بين الخير والشر والجانب الجيد والجانب السيئ في الدماغ، ويخلق ذلك نوعاً من عدم التوازن (imbalance) في الدماغ...فكيف تقلع عن كل ذلك...؟!
من الصعب على المدمن على فعل عادة سيئة الإقلاع عنها، لسبب واحد وهو أن الفعل الصادر عن تلك الأفعال يجعل من آلة التفكير (الدماغ) عند الإنسان مضطربة وغير متوازنة...وهذا يستغرق وقت، فالدماغ جراء تلك العادات السيئة يطلب وبصورة ملحة تلك العادات، مثلاً المدخن في أول أيام إقلاعه يجد أن الدماغ لا يكف عن الصراخ طالباً الدخان...وتارك المواقع الإباحية يجد نفسه في ضيق عن استخدام الإنترنت أو التلفاز دون مشاهدة مشاهد إباحية...
ولكن الخبر المذهل هو التالي: فقد أظهرت الدراسات أن في حالة تقديم معلومة للدماغ بعاطفة وإيمان بها وأستمر ذلك الإيمان لثلاثين يوماً فسيؤدي ذلك أن يقوم الدماغ بخلق مسار عصبي يحفز لهذا الأيمان...مثلاً أن تؤمن بفكرة الإقلاع عن التدخين أو الكحول أو متابعة المواقع الإباحية والمقاطع الجنسية، مع وجود محفز ديني واجتماعي ليلهمك الصبر والاستمرار...
ولو إستمر ذلك لتسعين يوماً فسينتشر هذا المسار العصبي المحفز داخل الدماغ فسيصبح هذا الأيمان الجديد هو:المسار العصبي الأساسي للدماغ (primary neuro path way)...أي يكف الدماغ نهائياً عن طلب الشيء المدمن عليه...أي أن تصبح الفكرة والأيمان الجديد مع الاستمرار به هو المحفز لعمل الدماغ وطريقة تفكيره...مع إشغال أوقات الفراغ بأشياء مفيدة وممتعة كالمطالعة والتسالي والرياضة والعبادة والسفر وغيرها بما يناسب كل شخص، مع تجنب الخصوصية والعزلة في البدء، وحاول الاختلاط بالأصدقاء...أي تصبح أنت، أنت...أي تصبح أنت من يختار حياتك، وأنت من يحدد مصيرك، وأنت من يؤسس لطريقة تفكيرك...أي يمكنك إعادة برمجة (re-programming) دماغك كي تفكر بصورة مختلفة، وتعالج مشاكلك بنفسك، فلا يؤلم الجرح إلا من به ألمُ.ولا تنسى تجربة أبسط الحلول قبل أعقدها...
بالتأكيد تم إعدام السجين في القصة السابقة، ففرص كتلك لا تتكرر...فخذ العبرة، وأغتنم الفرصة فإنها تمر مرور السحاب...
https://telegram.me/buratha