حمزة الدفان
منذ ان سقط نظام صدام اعتقدنا ان العراق نجا من أزمة تأريخية وسيعود الى وضعه الطبيعي ، ولكن الآن عرفنا ان الخروج من الأزمة ليس هو الحل كله بل ان العودة الى الوضع الطبيعي تحتاج الى مبادرة تأريخية ناجحة وجريئة ورائدة ، ولا يمكن ان ينهض بهذه المبادرة الا ابطال من طراز خاص يكونون في سلوكهم اليومي مصدرا للقيم الراقية وان لم يكونوا كذلك فان فاقد الشيء لا يعطيه ، العراق يحتاج الى ثورة اصلاحية ، ففي هذا البلد فسد الحاكم والمحكوم وانعدمت القيم وساد الجهل بسبب القمع الثقافي السابق ، والاصلاح ينهض به مصلحون وليس مفسدين ويروج لافكار صالحة وليس لافكار مدمرة ، وفي بلد كالعراق هناك نوعان من الآليات الاصلاحية الممكنة آليات حكومية قانونية وآليات اجتماعية مدنية ، والاصلاح الحكومي له ادواته واهمها القضاء القوي العادل المستقل ، والقوات المسلحة المخلصة النزيهة وغير المتحزبة ، حيث ينبغي ان تكون الادوات نظيفة ، ومن يحاول اصلاح الفساد بادوات فاسدة ومتسخة وملوثة فهو يسهم مباشرة في تقوية الفساد وتنويع طرق انتشاره ، اما الاليات الاجتماعية فهي آليات تثقيف واعادة تربية وغسل ادمغة وموجة رأي عام اجتماعي واسعة وهادفة ، ولا يحتاج الأمر الى اجهزة معقدة ، فاداة الاصلاح التربوي هي الموعظة والتوجيه والتذكير واستخدام سحر الكلمة التي كانت اداة تأريخية متفوقة في الاديان والحركات الاصلاحية عبر التأريخ ، وهناك منابر الحوزة والمرجعيات والعلماء والمدرسة والجامعة ووسائل الاعلام الوطنية الكثيرة ، وفي العراق تكاثرت وسائل التوجيه ومنابر الرأي من صحافة وقنوات فضائية ومواقع تواصل اجتماعي ومجالس دينية وتجمعات وعظية ومساجد وصلوات جمعة ومواكب زيارة ، وكلها ساحات تصلح لاعادة تثقيف المجتمع باتجاه اجتثاث الفساد المتعدد الاشكال ولكن هذه الكثرة تفتقد للتنسيق وللنوعية الجيدة ، فهي كمية بلا نوعية ، وكثرة بلا هدف ، وجعجعة بلا موضوع محدد ، يلفت نظري ما يجري في شبكة الفيس بوك من توافه يقوم بها كتاب ومثقفون عراقيون وهي منبر للاصلاح الثقافي بعض هؤلاء يعيش في واد آخر ويمارس طقوسا صبيانية في مخاطبة الجمهور ، فهو تافه في وعيه وتطلعاته وجاهل ولا مبال بل تحركه امراض وعقد وشعور بالنقص ، مع غياب شبه كامل للاقلام المحترمة والاسماء اللامعة وكسلها وانزواءها وشعورها باليأس . اذا كان كثير من وسائل الاعلام والرأي فرطت بهذا الواجب من باب كونه تطوعيا فهناك جهات دينية محددة يعد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبها الرسمي والشرعي وعلة وجودها فاذا تخلت عنه فلا داعي لوجودها ، خاصة وان شروط القيام بهذا التكليف الذي هو من اهم فروع الاسلام متوفرة ، ففي ظل هذا الوضع اولا لا يخشى الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر على حياته خطرا وقد تتوفر له افضل حماية جسدية ومعنوية اذا هو شرع باداء هذا العمل ، وثانيا ان احتمال التأثير كبير ويعتد به وقد اثبتت ذلك التجربة الاعلامية البسيطة ، وثالثا ان لدى هذه البلاد حشدا من العلماء والمثقفين يعرفون موارد المعروف والمنكر ويميزون بينهما بما لا يترك مجالا للجدل وليسوا هم جاهلين ولم يلتبس عليهم المعروف بالمنكر فيحتملوا الفتنة . لكن احدا من هذه الجهات لم يقم بدوره كما ينبغي على ان هناك مبادرات فردية وليس مؤسسية تعطي نتائج محدودة ولكن هذا العمل الاصلاحي البنيوي يجب ان تقوم به مؤسسة متماسكة متضامنة ذات مخطط . الجهات المسؤولة عن الاصلاح في هذا البلد انخرطت في سلوك فاسد جديد بدل الاصلاح ، فترى المصلحين الذين ينتظر منهم القتال الشرس في مواجهة الفساد يجاملون الفاسدين والمجرمين ويوادونهم ويبطنون لهم الحب ، ويبغضون الشرفاء والاحرار ويبطنون لهم البغض ، خليط من النفاق والانحراف المتداخل الامر الذي يعني ان كثيرا من معارضي النظام السابق كانوا في حقيقتهم منافسين سياسيين له وليسوا مصلحين ويجتمعون معه بوحدة النهج وتشابه الادوات وتماثل الاساليب ، فهم بعثيون وان لم ينتموا ، انهم انشقاق مصلحي وليسوا نموذجا مضادا لتلك المنظومة الفاسدة . المصلحون الحاليون المشاركون في العملية السياسية اغلبهم قدم سلوكا استفزازيا صادما في الفساد والاختلاس والمحسوبية وقمع الآخر والجبن والانتقائية والانانية والتكبر وعدم الشعور بالمسؤولية وضعف الشعور بالانتماء الوطني ، والتسيب الاخلاقي والانهيار القيمي والكذب والتدليس ، مما جعل الناس يتصورون ان انحطاط نظام صدام كان امرا مشروعا ولا يمكن الفرار من انحطاط الحاكمين ما دام البديل الاصلاحي بهذا المستوى من التدني ! هذا المظهر له آثاره المحبطة على البنية الاجتماعية وعناصرها العقيدية ، هناك تقييم ورؤية ثقافية خطيرة تنتشر بين الناس حاليا ، تقول هذه الرؤية بان الدول المتقدمة علينا اقتصاديا وتكنلوجيا وثراء ورفاها واستقرارا امنيا هي دول تقدمت علينا اولا من الناحية الاخلاقية ، وتضيف هذه الرؤية ان التطور الاخلاقي في الامم هو الاول وكل تطور مادي يعقبه يعتبر ناتجا عنه ، وهذا يعني بالمحصلة ان الشعوب غير المتدينة في الغرب الآن سبقتنا اخلاقيا وكانت اصلح من هذه الشعوب التي لها دين وكتاب سماوي وعلماء ومراجع وما الى ذلك ، وهذا توجيه خطير يجب ان تكون لدى الجهات الاصلاحية في المجتمع اجوبة عليه ، هذا يعني ان الفساد في البلد وصل مرحلة معينة بحيث بدا يسهم في ارباك المسلمات الدينية والاخلاقية المتوارثة والمقدسة ، والتشجيع على التشكيك بها ، وعدم التمييز بين المبدأ ومن يقوم يتطبيقه بين المفهوم والمصداق ، الحكومة في العراق فشلت في ايجاد سياق ثابت وواضح لمكافحة الفساد ولم توفر الادوات النظيفة من قضاء وقوات مسلحة ، كما فشلت الجهات الاجتماعية في اصلاح ثقافة المجتمع باتجاه رفض الفساد ، وقد ادى هذا الفشل المزدوج الى نتيجة خطيرة هي التشكيك بالاسلام لان معتنقيه الحاليين هم اشد الناس فشلا وجهلا وتخلفا في العالم ، هناك أناس سينتقم الله منهم عاجلا قبل ان تحل اللحظة التي يفقد فيها الناس الثقة بالاديان ويهرعوا الى المناهج الالحادية ، فالعناية الالهية يجب ان تتدخل ، وعلى من يجد نفسه سائرا في ركاب هذه الموجة ان ينقذ نفسه من غضب الله قبل غضب الجماهير .
https://telegram.me/buratha