المقالات

مدن بابل عندما تقرر الإنتحار ..!!

1064 10:48:00 2011-11-18

علي بابان وزير التخطيط السابق والقيادي في دولة القانون

مدن بابل عندما تقرر الإنتحار ..!!إنها (لحظة حزن) حقيقي لنا نحن الذي يطيب لنا أن نصف أنفسنا بـ (الوطنيين العراقيين) ونحن نشاهد وطننا (يذوي) ويُحيله النزف إلى الشحوب ونحن لا نستطيع سوى ذرف الدموع وحالنا كحال أم تشاهد أبن عزيز لها يقترب من الموت الذي لا تستطيع رده...، أية مأساة نعيشها ونحن نرى العراق الغالي يتهاوى أمام أعيننا كوطن تنهار جدرانه وتوشك النار أن تشب في أفنيته ونحن لا ندري أية فرقة اطفاء نستدعي بعد أن تأكدنا أن (حاميها حراميها) وأنه كما يقول المثل العراقي (كوم حجار ولا هالجار...!!).العراق لم يكن لنا مجرد وطن بل كان (فكرة) و(قضية) و(رسالة) وليس في وصفي هذا مكابرة أو غروراً وطنياً يتجاوز مشاعر الإنتماء الوطني الفطري العادي عند كل إنسان، ولا هو قفز مصطنع على الواقع السيئ الذي ينبيئ بعكس ما أصف... ولكني أزعم أن (الوطنية العراقية) تحتل مساحة كبيرة في نفس كل عراقي ووجدانه وأن العراقي يستمد هذا الإنشداد للعراق من شعوره بعظمة التاريخ وعبقرية المكان، فالتاريخ يغرز في كياننا شعورا بالإعتداد بالنفس والإحساس بالتفوق والتفرد رغم كل مظاهر الضعف التي تحيط بنا.. الوطنية إذن عميقة الجذور في نفس العراقي وأكثر تجذراً مما هي عليه في كثير من دول العالم وإن أوحى المشهد الراهن بعكس ذلك... دراسة التاريخ وتدبر وقائعه هي أحد أهم العناصر التي تصوغ فكر الأمم وتحدد شخصيتها ومزاجها وكما جعل الخالق بني البشر وأمم الأرض مختلفين عن بعضهم البعض ببصمة الإبهام... فإن الشعوب والمجتمعات لها بصمة تميزها عن غيرها وعبثا يحاول من يحاول التغيير فيها، وبصمتنا الحضارية والثقافية المغروسة في نفوسنا كعراقيين تدفعنا إلى الإيمان بتفرد وطننا وأنه ليس كسائر الأوطان والسبب في ذلك بكل وضوح هو ثراء الميراث الحضاري للعراق وما يكسبه للفرد العراقي من عناصر القوة والثبات وما يجعل مجتمعه كذلك قادراً على الصمود والتجدد والإنبعاث رغم توالي المحن والنكبات وقساوتها.لم تظهر في بلادنا حركات تنادي بالقومية العراقية كما ظهرت الحركة الفرعونية بمصر بالقرن الماضي أو كما ظهر الحزب السوري القومي الإجتماعي ببلاد الشام ، ولم يتأسس لدينا احزاب ترفع الهوية السومرية أو البابلية كما رفع حزب الكتائب اللبناني الهوية الفينيقية ولكن ماهو مغروس في شخصية العراقي هو أكبر من ذلك بكثير وعمق الإحساس الوطني لدينا أقوى من أن يستوعبه حزب أو تيار فكري لوحده.العراقي عندما ينظر إلى تاريخه يجد أنه وريث خمسة ألاف عام من العطاء الحضاري وأنه يتربع على عرش مجد صنعه له أجداده لا يحق له أن يفرط به فما من بقعة من بقاع العالم اليوم أكتنزت كل هذا العطاء واحتضنت مثل هذا العدد من الأنبياء والأولياء والصالحين... ومامن جدود كجدودنا كان لهم عطاءات من وزن تعليم الناس أبجدية الكتابة وتشريع القوانين...

الخليفة الرابع الإمام علي - رضي الله عنه - نقل مركز الخلافة من الحجاز إلى العراق لإدراكه أن بيئة العراق بكل معطياتها هي الأكفأ في التعبير عن الإسلام واستيعاب أسرار عظمته وتجسيدها في الواقع ومنذ ذلك التاريخ صار الإسلام بكل ما أعطاه للإنسانية من هبات تكليفاً ربانياً لهذه الأرض الطاهرة التي استوعبت هذا الدين وفاضت به على الدنيا توحيدا وعقيدة ، فقها وعلما، فكرا وأدبا وحضارة، وصارت بصمة العراق وعلمائه واضحة في هذا الدين بصورة غير معهودة في أية أمة من أمم الإسلام الأخرى التي انضوت تحت لواء الدين الجديد كما صارت حلقات ومراحل التاريخ الإسلامي في بلادنا هي الأغزر والأعمق والأكثر إنفتاحا وتحضرا...إذن فوطنية العراقيين واعتدادهم بالنفس ليس أمراً يصعب تفسيره أو فهمه ولكن العكس هو الحالة التي يتعين توضيحها ، واليوم عندما نجد أن المشاعر الطائفية أو العرقية هي الطاغية وهي التي تزيح مشاعر الإنتماء الوطني إلى مرتبة أدنى فلابد أن نجهد أنفسنا في التحليل والتفسير وأول ما ينبغي ذكره هنا يتمثل في أنه إذا كانت الوطنية هي أحدى مقومات الشخصية العراقية فإن الإنقسام هو أيضا أحد مقومات تلك الشخصية وصفة تكاد تلازم المجتمع العراقي عبر عصوره المختلفة، وهنا يبرز التحدي وهو تجاوز الإنقسام وشد العراقيين إلى أصل مشترك يذيب خلافاتهم ويقهر تناقضاتهم ، هذا التحدي كان دائما يواجه من يحكم العراق ويسوس أمره وفيما نجح البعض من الحكام في مواجهة التحدي سقط كثيرون وخسروا فيه.إذا ما قرأت اليوم أي كتاب في (الإدارة الإستراتيجية) سواء أكان إطاره المؤسسة الصغيرة أم المجتمع الكبير تجد أن مبحث (إدارة الصراع) هو أحد مباحثه الإساسية وأن القائد... أو المدير الذي ينجح في إحتواء الصراعات... ولجمها... وتذويبها يستطيع تحويلها إلى عناصر قوة ونجاح لمؤسسته أو مجتمعه والعكس صحيح بالطبع...العراقيون في كل مراحلهم الحديث منها والقديم انقسموا طوليا وعرضيا... انقسموا حول الأعراق... وحسب المدن... وحسب الأديان... والطوائف... والهوية السياسية والعقدية... واحتربت العشائر ... والأفخاذ مع بعضها البعض ... ربما كنا الأمة الوحيدة في العالم التي شخص علماء التاريخ فيها ظاهرة (إنتحار المدن البابلية) التي تقتتل مع ذاتها ومع جيرانها حتى تفنى... إذن فالله سبحانه وتعالى الذي أعطى العراق كل عوامل الثراء الحضاري والمادي شاءت حكمته أن يبتليه بداء الإنقسام وأن يذيق بعض العراقيين بأس بعض، إذن فما نشاهده اليوم من مظاهر إنقسام وطني ليس سوى إمتداد لتاريخ طويل من الصراعات الداخلية في هذا الوطن، واليوم إذا كانت مفردة (الطائفية) هي الأظهر فقد عاش العراق فترات مختلفة من تاريخه كانت موضوعات (العرق) و(الإنتماء الحزبي) هي معايير الإنقسام والصراع المجتمعي ، هذه الحقيقة في تكوين العراق التي تحزننا لحد البكاء تقتضي وقفة تأمل... وتفكر... وتدبر... حول طريقة التعامل معها كما تستلزم جهودا علمية واعية يقوم بها أساتذة التاريخ والإجتماع وعلم النفس لدراسة انجع السبل لترويضها وتطويعها وجعلها عامل قوة وإثراء للمجتمع بدل أن تصبح عامل هدم وتدمير كما هي عليه اليوم.نظريات علم الإجتماع السياسي التي يطيب لي دائما أن أستشهد بها رغم فقر بضاعتي فيها تُعلمنا أن الأمم ذات الجذور الحضارية العميقة هي (كطائر العنقاء) الذي لديه القدرة على الحياة والإنبعاث مرارا وتكرارا رغم كل ما يواجهه من أذى يصل به لحد الموت أو ما يشبهه. ولكنه ينبعث من الركام مجددا ويقوم ليطير بجناحيه ، ومن يقرأ التاريخ العراقي القديم والحديث تتعزز قناعته بأن وطننا هو أيضا (طائر عنقاء حقيقي).ومن مفارقات الأمور أني أطلعت على وثيقة غربية تتناول بعض التحليلات الإستراتيجية عن مستقبل العالم وهي تشير لنظرية العنقاء هذه ، وتؤكد أن الأمم صاحبة الحضارات قد تمر بظروف صعبة ولكنها تستعيد عافيتها المرة تلو الأخرى.هذا العراق ليس وطن الحضارات فحسب ولكنه وطن التناقضات والمفارقات الغريبة كذلك، هو الوطن الذي يمرض ولا يموت... وهو الذي يحتوي أغنى أرض يعيش عليها أفقر مواطن... وهو صاحب التاريخ الأكثر ثراءً والواقع الأشد بؤساً ... وربما كانت هذه الثنائيات المتناقضة مما سبق إلى تشخيصه عالم الإجتماع الراحل علي الوردي هي التي طبعت الكثير من ملامح الشخصية العراقية. أوليس الإنسان إبن بيئته ونتاج تأريخه في أخر المطاف..؟!هذا العراق الذي به نتغزل ... ونُشخص مكامن التفرد ... والريادة... في تاريخه... والذي لازلنا نؤمن بأنه يحمل في تكوينه (فرصة نهوض) و(إمكانية إنبثاق وإشراق) لابد أن يحين موعدها طال الزمن أم قصر... هو أيضا العراق الذي نعرف علله ونحدد أمراضه الكثيرة ... فعيوب مجتمعه ليست بالقليلة ولعل هذا ما جعل (راهبا في محراب العراق) كالشاعر الجواهري يصل إلى الحد الذي يقول فيه معبرا عن إشمئزازه وحنقه على الحال الذي أنتهى إليه بعض العراقيينفما بال كف القضا لا تدور على بلد ضل حتى أختزىفيا ترى أية مشاعر من الغضب والأسى عصفت بالجواهري ليخاطب معشوقه العراق بمثل هذه الكلمات...في مقابل هذه الصورة التي نضحت من معاناة الجواهري من عيوب العراقيين وعللهم وتقصيرهم تجاه وطنهم نجد صرخة تحذير يطلقها شاعر أخر من شعراء العشق العراقي وهو على فراش الموت في ديار الغربة وليرسل صرخة حري بعراقيو اليوم أن يسمعوها من السياب الذي صرعته الحسرة على وطنه وعقوق مواطنيه له حين خاطبهم وقال:-

أبناء شعبي في قراه و في مدائنه الحبيبة لا تكفروا نعم العراق خير البلاد سكنتموها بين خضراء و ماء الشمس نور الله تغمرها بصيف أو شتاء لا تبتغوا عنها سواها هي جنة فحذار من أفعى تدب على ثراها رحم الله السياب وكأنه يخاطب العراقيين اليوم ولكنها لم تعد أفعى واحدة ولو كانت واحدة لاتقيناها ولكنها (أفاعيا) ... ولو كانت افعى سيد دخيل لهان الأمر لأنها أفعى محلية لدغتها ليست بالقاتلة... ولكن الأفاعي صارت تزحف لنا من شرق وغرب شمالا وجنوبا ولم تعد لدينا القدرة على وقف زحفها بعد أن لدغت مواطنينا وسرت سمومها في أفكارهم قبل أجسادهم...!!هل نطمئن على مستقبل وطننا ونهمل كل المشهد الذي أمامنا ونهاياته باتت معروفة ونستند إلى نظرية طائر العنقاء الذي ينبعث ولا يموت ونضع أيدينا في الماء الباردة لنقول : ... لا خوف على العراق...!! ، لا نستطيع أن نفعل ذلك لأن نفس هذه النظرية تقول لنا أن هذه الأمم قد تسقط في حفر عميقة وتطول محنتها ومعاناتها فيا ترى كم سندفع ثمنا لهذه المحنة وكم ستطول ...؟ ومتى سينهض العنقاء وينبعث من جديد ...؟؟

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك