من اعداد الشيخ حيدر الربيعاوي وتاليف الدكتور الشيخ عباس الانصاري ومن اصدارات المجمع العلمي للدراسات والثقافة الاسلامية النجف الاشرف
بين الشهادة الخالدةوالسرِّ في شرافة البقعة الطاهرة لمرقدهمقدمةٌ تمهيديّة:لقد حاز سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) على أرفع درجة في ساحات الجهاد في سبيل الله تعالى ونصرة دينه الحق _ الدين الاسلامي الحنيف _ , وعلى أرقى المراتب في ميدان التضحية والفداء حتى الشهادة التي بُنيت على أُسس الاخلاص لله جلّ وعلا في العهد الرسالي لـه, وذلك من أجل حفظ أركان الإسلام, وحماية العقيدة الحقة من التشويه والانحراف عن الخط المحمديّ الأصيل, بل لأجل تثبيتها على قاعدةٍ إلهيّةٍ، رصينة المبادئ، هادفة في قيّمها, متينة في غايتها, واضحة في أهدافها التي تهدف الى السموّ بالانسان الى الكمال الالهيّ.كما نال (صلوات الله وسلامه عليه) أعظم وسام خصّهُ به العليم الحكيم (جلت عظمته) مِنْ أَوسمة الشهادة؛ لانه أُستشهد من أجل أن تبقى كلمة لا إله الاّ الله هي العليّا, حيث جاهد بكل صلابة وإصرار على محاربة حكام الظلم وسلاطين الجور حتى آخر قطرة من دمائه الطاهرة في آخر رمقٍ من حياته الشريفة, وبذلك حصل (عليه السلام) على أعلى منازل الآخرة في سجل الشهداء والصدّيقين, وذلك بأنْ اصبح سيد الشهداء، وسيّد شباب أهل الجنة إلى جانب أخيه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) على لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».فمنذ أنْ اُستشهد الإمام الحسين (عليه السلام) ارتقى عرش الشهادة في رياض الجنة من بين شهداء الاسلام، ولم يدانيه أحداً في هذا المنصب الإلهيّ الذي منحه لـه الله (تبارك وتعالى) دونَ غيره منَ الشهداء؛ لأنّه (صلوات الله عليه) سجل أعظم ملحمة في تاريخ الإسلام، معفرةً بأسمى ملاحم البطولة والفداء، ومحفوفةً بأعلى درجات التضحية والإباء في صفحات الجهاد في سبيل الله.ولهذا تُعدُ واقعة الطف في يوم عاشوراء مِنْ أعظم الملاحم التاريخية في تاريخ البشرية، ملحمة لم يذكر التاريخ مثيلاً لها أبداً.كيف .. لا؟وقد كان رائدها هو سيّد الشهداء؛ الذي برز بأروع صورة البطولة والشجاعة الفائقة على مدى الدهر في التاريخ، عندما كان أهل بيته واصحابه يبرزون على أرض كربلاء واحداً تلو الآخر، كل ذلك حدث ولم تنثن عزيمته الجهادية.. إلى أنْ سالت دماؤه الزكية، وهي تسقي جذور العقيدة على أرض الإسلام العزيز، لكي تبقى راسخة شامخة إلى يومنا هذا.ولهذا نالت كربلاء هي الاخرى وسام العزّ والشرف مِنْ بين بقاع ا لعالم، فاصبحت أفئدة الناس تهوي إليها من كُلِّ مصر، وفي كل عصرٍ؛ لانها تشرّفت برقود الجسد الشريف لسيّد الشهداء فيها، وروت من دمائه النفيسة، فازدادت بذلك فخراً وشرفاً وكرامة لاتضاهيها بقعة في ذلك. كما نصّ على أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في كلماتهم، ونصوص زياراتهم: «طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم»( ).ويكفي حرم الحسين فضلاً أنْ يتخير زائره في الصلاة بين القصر والإتمام، وسيتحب لـه الأخير، لكن مع رفعة هذه المنزلة لأرض كربلاء، وبعدما أخذت قلوب المؤمنين تهوي إليها، لزيارة مرقد الحسين بكل لهفة وشوق، عَمْدَ المارقون من أعداء أهل البيت والناصبيين، إلى سحق المرقد الطاهر، ومحوه من الوجود مراراً وتكراراً، لكن دون جدوى ولله الحمد.وفي قبال هذه الاحداث، والحملات التخريبية نهض الاخيار من شيعة أهل البيت إلى العمران والبناء المتواصل لمرقد امامهم، وسيّدهم الحسين (عليه السلام) تعظيماً لـه واعتزازاً به، وهكذا بقي مرقده المقدس شامخاً خالداً على مدى التاريخ، وهذه من أعظم كرامات الخلود لـه.* * *
الفصل الأوّل
الإخبار الغيبيّ بشهادة الحسين (عليه السلام) مِنَ السماءلأفضل أهل الأرض في المجتمعات
في عصور ما قبل الإسلام
الفصل الأولالإخبار الغيبي بشهادة الحسين (عليه السلام) من السماءلأفضل أهل الأرض في المجتمعاتفي عصور ما قبل الاسلام
مقدّمة تمهيديّة:اختلف العلماء من الفلاسفة - اليوانيين وغيرهم - والمتكلمين وأصحاب المذاهب والفرق الاسلامية في أول ما صدر عن الصادر الأول، وفي تعيين أول المخلوقات، فذهب الأكثر منه إلى أنّ العقل الأول هو أول المخلوقات ثمّ الثاني، والفلك الأول، حتّى ينتهي الامر إلى العقل العاشر والفلك التاسع وهيولى العناصر( ).وهكذا... فقد تقر في ملحه أنّ العقل الأول هو أول مخلوق صدر عن الله تعالى؛ والذي يكون لـه ثلاث لحاظات.. وجود اُفيض من الصادر الأول، ووجوب بلحاظ المبدأ الأول، وإمكان من حيث ذاته، فكان بذلك الموجود سبباً لعقلٍ آخر، وبذلك كان سبباً لنفس فلكٍ، وبإمكانه أصبح سبباً لجسمِ فلكٍ، وهكذا حتّى نصل ال العاشر في العقل والفلك التاسع.ولكن الذي قررّه أهل بيت العصمة والوحي (صلوات الله عليهم أجمعين)؛ وقد دلّت عليه الروايات الصحيحة - حتّى أن أغلب العامة ذهب لذلك- إلى أنَّ أوّل المخلوقات هو نور النبيّ الأعظم |، وكما هو مصرّح عنه: «أول ما خلق الله نوري»( ).على أنّه خلق من الله (جلّ وعلا)، كما قال حبيبه المصطفى (صلّى الله عليه وآله): «ألا إنا خُلقنا من نور الله»( ).ثمّ خُلق من ذلك النور - نور النبيّ الخاتم (صلّى الله عليه وآله) - نور الأئمة الأطهار (سلام الله عليهم) في عالم الملكوت العلوي في تلك النشأة العُليا؛ والتي لا يتناسب معها وجود الموجودات إلاّ وجودهم بأنوارهم الساطعة، وقد صرّحَ بذلك أئمة أهل البيت (عليهم السلام).قال أمير المؤمنين الإمام عليَّ (عليه السلام):«إنّا آلُ محمّد كُنّا أنواراً حول العرش، فأمرنا اللهُ بالتسبيح فسبحنا فسبحّتْ ا لملائكة بتسبيحنا، ثمّ أهبطنا إلى الأرض فأمرنا بالتسبيح فسبّحنا فسبّحتْ أهل الأرض بتسبيحنا»( ).وبما أن الحسين (عليه السلام) من أهل بيت النبيّ وعترته الطاهرة (عليهم السلام) ، بل هو سبط رسول الله وحبيبه، اذاً هو أحد أوّل هذه المخلوقات، وبهذا يتضح إنّه (عليه السلام) من أوائل الانوار التي هي أول ما خلقت في عالم الملكونت الأعلى قبل وجود عالم الامكان والتكوين البشري.إذا ثبت هذا... فلا غرَر أنْ أخبر الباري المصور (جلّت قدرته) عن شهادته، أنبيائه وأوليائه الصالحين في عالم الدّنيا قبل تنزّله من تلك النشأة العليا؛ وقد ثبت - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - عنهم (عليهم السلام) جميعاً أنّهم رأوه ، بل توسلوا به (صلوات الله عليه) إلى ألله في قضاء حوائجهم، وقد قضيت ببركة وجود نوره المقدس، كما حصل لآدم (عليه السلام)( )، عن طريق دلالة أمين الوحي والتنزيل جبرائيل (عليه السلام) ، ثمّ تواردت الأخبارات الغيبيّة عن شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) منذ أنْ خلق الله (تبارك وتعالى) آدم وحواء‘، وجعله نبياً وأباً للبشر وزوجه أُماً لهم.وهكذا الحال بالنسبة لجميع الانبياء المرسلين (عليهم السلام) حتّى وصلت النوبة إلى خاتمهم نبينا محمّد |، وهذا بحد ذاته إنما يدل على عظم مصاب أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وعظيم منزلته عند خالقه العظيم (عزّوجلّ).ومن هنا دلّت الأخبار على أن جميع المخلوقات قد بكت على مصيبة الحسين وأهل بيته وأصحابه (عليهم السلام)، فثبت هذا حقيقةً لا ضير فيها - كل بما يتناسب مع حال نشأته ووجوده - ولا مبالغةً في ذلك، فقد ورد أنَّ السماء بكت ومَنْ فيها( )، والأرض ومَنْ عليها، وإنكسرت لمصابه (عليه السلام) جميع الموجودات، بل ورد إنّ اعدائه وقتلته بكوا عليه بوجودهم العام وماهياتهم، وأصابهم الانكسار بفطرتهم وحقائقهم.. كل ذلك بلا اختيار منهم( )، وذلك بمقتضى الأثر الوضعي التكويني، لكنهم ارتكبوا هذه الجريمة النكراء بحقه بمقتضى أفعالهم الاختيارية التي انحرفت عن المسار الصحيح والعقيدة الحقة طلباً للسلطان والجاه الناتجين عن حب الدنيا وأهوائها، وبذلك استحقوا الخلود في جنهم وبئس المصير، وبكاؤهم هذا نتج عن عمق غفلتهم؛ لانهم كانوا يعرفون حقيقة الحسين، وإنما تجاهلوها تلبية لاهوائهم وشهواتهم، كما حصل للذين استيقنوا معرفة الله تعالى وجحدتها أنفسم ظلماً وعلواً من قبلهم، وقد غفلوا عن مقتضى جحودهم ونطقوا بالتوحيد.وهكذا الحال بالنسبة لاعداء الحسين وقاتليه، فهم في غفلتهم نطقوا بفضله، وبكوا على مصابه.. كما حصل لابن سعد (لعنه الله) عندما أراد الأمر يقتله، ويزيد لمّا رأى الأسارى ورق لهم، فقال: «قبُحَ ابنُ مرجانه»، وأما في حال عنادهم وظلمهم وطغيانهم، فقد أقدموا على قتله وسلب عياليه في أسرهم.ومن هنا .. ولعظم منزلة سيّد الشهداء (عليه السلام) وشدة مصابه أخبر عنه الحكيم (سبحانه) الانبياء والأولياء، وقد صوّر لهم وحياً هذه الجريمة التي ارتكبت بحقه من أجل ثباته؛ للحفاظ على دين جده محمّد |، ليأخذوا منها الدروس والعبر في مسيرتهم الالهيّة، ولهذا سوف نفصل الكلام في هذا الفصل من خلال بيان عدة مراحل: المرحلة الأولى:الإخبار الغيبي بشهادة الحسين (عليه السلام) وكتابتها في اللوح الإلهيّقد ثبت بأن شهادة الحسين (عليه السلام) في علم الله سبحانه وتعالى قبل وجود الخلائق، لعلمه (سبحانه) بما سوف يجري عليه في عالم الدنيا من المصائب؛ وأنّ مصيبته هي لمن أشد المصائب التي ستقع في هذا العالم، وإنها أعظم ملحمة تقع في سبيل الله ونصرة رسالته الحقه،لهذا بشر العليم الحكيم (عظمت قدرته) حبيبه المصطفى | بولادة الحسين ابن بنته فاطمة ÷ وعزّاه في نفس الوقت من خلال اللوح الإلهي الذي اهداه الجليل لنبيه.فقد روي الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن أبي بصير.. في حديث طويل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) إنّه قال:«قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري... أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد اُمي فاطمة بت رسول الله وما أخبرتك به اُمي أن في ذلك اللوح مكتوباً.قال جابر: أشهد بالله إني دخلت على امّك في حياة رسول الله أهنئها بولادة الحسين، فرأيت في يدها لوحاً...فقالت: هذا اللوح أهداه الله عزّ وجلّ إلى رسول الله... فاعطانيه أبي ليسرني بذلك.قال جابر: فأعطتنيه اُمك فاطمة فقرأته واستنسخته.فقال أبي: فهل لك أنْ تعرضه عليَّ؟فقال : نعم.فمشى معه أبي حتّى انتهى إلى منزل جابر، وأخرج إلى أبي صحيفة رقِّ.قال جابر: وأشهد بالله إنّي رأيته هكذا في اللوح مكتوباً:«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله العزيز العليم لمحمد بن عبد الله | نوره... إني فضّلتك على الانبياء ووصيّك على الأوصياء وأكرمته بشبليك بعده وسبطيك الحسن والحسين، فجعلت حسناً معدن علمي عبد انقضاء مدّة أبيه وجعلت حسيناً خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة وضمنت لـه بالسعادة فهو أفضل مَنْ اُستشهد وارفع الشهداء درجة...»( ).
https://telegram.me/buratha