حافظ آل بشارة
لم يكن حادث تفجير سيارة مفخخة عند أحد مداخل مجلس النواب حدثا فريدا من نوعه ، الا ان طريقة تعاطي الحكومة مع الحادث أثارت ذكريات قريبة وبعيدة عن حالات مماثلة جرى التعامل معها بالاسلوب نفسه أي تشكيل لجنة طارئة خاصة للتحقيق في الحادث ، فقد اعتادت الحكومة على (تشكيل لجنة) لدراسة حادث ما ثم تقديم تقرير نهائي ، وبينما تتصاعد الاعتراضات على هذا الاسلوب في ادارة الازمات والحوادث الكبيرة ، وبينما يتمنى الجمهور ان يتدخل مجلس النواب لمواجهة هذا المنحى يفاجأ الشارع بأن مجلس النواب نفسه اصابته عدوى تشكيل اللجان التحقيقية ، مع انه يضم 26 لجنة متخصصة وعاملة في مختلف الشؤون وبأمكانها ممارسة التحقيق في أي شأن لكن ما ان يجري حادث كبير حتى تستبعد تلك اللجان وتشكل غيرها للتحقيق فيه ! والمعروف ان الحوادث المختلفة والتي اغلبها جرائم ارهابية او جرائم فساد يجب ان تتابع من قبل الوزارات المختصة وضمن دوائرها ، او تتابع على مستوى اعلى قليلا من قبل رئيس الوزراء ومجلس الوزراء ، أما تشكيل لجنة تحقيق طارئة وكبيرة الحجم وممثلة لكل المكونات فهو اجراء استثنائي ويتم لضرورات نادرة واسباب معقولة أهمها : عدم توفر الكفاءة اللازمة في الدوائر المختصة ، او عدم توفر الحياد الكامل فيها ، او عدم التمثيل الكافي للمكونات السياسية في اللجان الرسمية التقليدية داخل الوزارات ، او بسبب انعدام الثقة في موضوع معين له طبيعة استثنائية فيتوافق الجميع على تشكيل لجنة عريضة التكوين لتحظى بثقة أكبر ويتفقون على قبول تقريرها النهائي ، ولكن الذي يجري حاليا ان الحكومة او مجلس النواب يتسابقان على تشكيل لجان عريضة التمثيل وطارئة للتحقيق في قضية ما ، وقد كثرت تلك اللجان واصبحت مترهلة وروتينية وتشكل بديلا عن الوزارات ودوائرها المختصة ، فحالة فساد كبيرة نسبيا في وزارة ما تعالج عن طريق لجنة طارءة حكومية او نيابية مع تهميش او تجاهل دور المفتش العام وديوان الرقابة المالية او الدوائر المختصة اجرائيا في الوزارة ، كما ان تشكيل لجنة لدراسة جريمة كبيرة يؤدي الى تهميش الدوائر المختصة في الوزارات الامنية والقضاء والاستخبارات واضعافها ، اي ان الاستثناء تحول الى قاعدة ، ومن اضرار هذا النهج : 1- تعطيل وتجميد دوائر التحقيق والتقصي داخل الوزارات اي تهميش قدرتها الرقابية وخسارة جهودها في هذا المجال مما يؤدي الى توقفها وعدم حصول تطور فيها ونشوء منطقة فراغ في مجال المبادرة الداخلية للوزارات من ناحية الرقابة ومكافحة الارهاب والفساد ، ونشوء روح الاتكالية في اوساط الوزارات بالاعتماد على اللجان الطارئة . 2- اللجان الكبيرة تحكمها حالة العمومية والروتين وفقدان الحماس والطابع الوظيفي وكونها حالة غير رسمية ، ولا يمكن تقييم عملها او معاقبة المقصرين فيها ، وتعاني عادة من فقدان التفاصيل الوافية التي لا يمكن التوصل اليها الا في اروقة الوزارات المختصة لذا من غير المتوقع ان تصل اللجان عادة الى نتائج حاسمة . 3- كثرة اللجان الطارئة التي تشكل لمتابعة قضية معينة يؤدي الى التقليل من اهمية هذا الاجراء الرسمي الذي لا يجري الا في مواجهة قضية مهمة جدا ، وتصبح تلك اللجان موضع سخرية لكثرتها ولطبيعة الازمات التي تكلف بكشفها . 4- كثرة تلك اللجان التي تشكل على مستوى عال في الحكومة والبرلمان تؤدي الى مزيد من التوتر بين القوى السياسية فهي في افضل الاحوال تدل على كثرة المخاوف وفقدان الثقة بين الاطراف ، وعدم الاقتناع الدائم بمستوى التمثيل لكل طرف ، ويرسم لمؤسسات الدولة صورة وكأنها ناقصة الشرعية ومقسمة سياسيا وما يثق به طرف لا يثق به الآخر في وقت يتحدث الجميع عن دولة المؤسسات ذات الدوائر المحترفة مهنيا وذات السياقات الخارجة عن اي اعتبار فئوي وغير المسيسة او المقحمة في الصراعات الحزبية ، فتقاليد تشكيل اللجان الطارئة تلغي هذا المنحى التطوري وتؤدي الى تحجيمه . 5- لم تقدم اللجان الطارئة الحكومية او النيابية التي تحقق في قضايا كبيرة وخطيرة نتائج يعتد بها للحكومة او البرلمان او الرأي العام ، والغريب ان الحوادث الكبيرة عندما تجري يتناقل الشارع بسرعة ان من يقف وراءها فلان او الجهة الفلانية بتصور اقرب الى اليقين الجماعي وما ان تذهب تلك اللجان للتحقيق تكتشف ان الشارع قد سبقها كثيرا في الوصول الى الحقيقة . 6- طبيعة الصراع على السلطة في البلد لا تسمح بايكال هذه الحوادث الكبيرة الى لجان تحقيق استثنائية ، لان نتائجها لا تعلن ولا يطلع عليها الرأي العام بل ربما تتحول الى ملف خفي للضغط والابتزاز بين طرف سياسي وآخر ، وهذا الامر هو الذي جعل الناس في دهشة وغضب وهم يرون مجرمين معروفين او فسدة مشاهير يتولون مناصب خطيرة في الدولة ، فالتوازنات والصفقات تلغي وتشطب كل ما تتوصل اليه اللجان الطارئة التي اصبحت تزود الاطراف بملفات ضغط وليس مواجهة الاحداث الكبيرة وتلافي آثارها او ضمان عدم تكرارها . وفي هذا السياق يتذكر الرأي العام العراقي حكاية تشكيل لجان التحقيق من الحكومة او البرلمان بشكل متكرر ، لجنة للتحقيق في تفجير جسر الصرافية ، لجنة للتحقيق في تفجير وزارة الخارجية ، لجنة للتحقيق في حريق البنك المركزي ، للتحقيق في حريق الشورجة ، للتحقيق في مجزرة النخيب ، تفجيرات البصرة ، تهمة بيع وزارة الدفاع ، ملفات فساد وزارة الكهرباء ، الخروق الانسانية للجيش الامريكي في العراق ، تفجير كنيسة سيدة النجاة ، محاولة اغتيال النجيفي ، اختفاء 17 مليار دولار لدى الامريكيين ضمن عملهم في العراق وغير ذلك من العناوين ، وبعضها يمكن التحقيق فيه داخل الوزارة المختصة . ورغم ان تشكيل اللجان يجري على اساس الدستور والقوانين ولكنه يحتاج الى سقف وتفاصيل لضبط ايقاعها ، وشروط عملها ، وهل من حقها ان تفشل ، وهل من حقها اخفاء الحقائق المكتشفة على الرأي العام ؟ واذا كانت هناك ضرورات تخص مصلحة البلد لاخفاء الحقائق فما هي تلك الضرورات ومن يحددها وهل هي سائبة ام مشخصة قانونيا ام للمعنيين حق الاجتهاد دائما في تقديرها ؟ ومن الذي يجتهد وهل يصح الاجتهاد مقابل النص القانوني ؟ يبدو ان عادة تشكيل اللجان استشرت ولم تكن فقط عادة ضارة سياسيا واداريا بل كانت تؤدي احيانا الى زرع الضغائن ونشر الشكوك بين اعضاء الكتلة الواحدة او التحالف الواحد فالنتائج التي تتوصل اليها اللجان ربما تبقى حكرا على اشخاص وتحجب عن آخرين مع انهم متساوون في اعتبارهم الرسمي . يعتقد كثير من المختصين ان تلك اللجان كانت تتوصل احيانا الى حقائق خطيرة مثل ضلوع اشخاص من قادة العملية السياسية ومن رموز الاحزاب الكبيرة في ممارسة الارهاب والجريمة المنظمة ودعمهما ماليا وسياسيا وتشكيل مجموعات اجرامية شبه علنية ، فيما يشارك آخرون في عمليات فساد منظم بمبالغ وصفقات كبيرة ، الا ان تلك النتائج يتم اخفاؤها وتاجيل العمل على ضوءها . ويعتقد مراقبون مطلعون ان هذا الاسلوب في مواجهة الفساد والارهاب يدل على خطا فادح في تقدير الموقف ، والخوف من الحسم ، والتهاون في المواجهة الجادة وعدم فهم اصحاب القرار للفرق بين اللين والشدة ، ومبدا المناورة ، فهم يناورون في موضع وجوب الشدة ، ويتهاونون في موضع وجوب الجد بسبب الجهل او الخوف ، ومهما يكن من أمر يجب على المتصدين المخلصين مواجهة ظاهرة اللجان وتقنينها وتفعيل الدوائر المختصة في الحكومة والبرلمان لا داء وظائفها وتقوية ومأسسة تلك الدوائر.
https://telegram.me/buratha