سماحة السيد حسين الصدر
تمور الحياة اليومية للناس بألوان من النشاطات والفعاليّات واللقاءات ، وتكثر الأحاديث والتصريحات ،وتتعدد المواقف والقرارات لا في الحقول السياسية فحسب ، بل في شتى الحقول والميادين العلمية والأدبية والفكرية والسياسية والاجتماعية والعسكرية والثقافية والفنية ....وعلى ذلك جرت حركة المجتمعات والأمم ،في مختلف الأقطار والاعصار .والتاريخ لا يُعنى بكل تلك المفردات ،لاسيما اذا كانت خالية من ومضات متميّزة بأهميتها الاستثنائية ، ولكنه لنْ يمر على المواقف الدّالة على المناقبيه الفريدة ، والمتمسكة بأهداب الدين والاخلاق والفضيلة ،دون ان يقف عندها وقفة خاصة ليسجّل بأحرف من نور ،إشادته بها ويسلط عليها ما تستحق من الأضواء ثناء وامتداحاً واجلالاً وأكباراً .من هنا فان ( الإمعّات ) لن يكون لهم الا النصيب السلبي ، والذكر المقرون بالاستهجان والاستنكار والانتقاص والنقد الشديد .ان الشهداء يَصِلون الى الحياة عن طريق الموت وان العظماء يصلون الى احتلال المواقع العالية ، بتضحياتهم وايثارهم المصالح العليا على مصالحهم الخاصة .وانّ الابطال الذين يُطلقون صرخات الحق بوجه الطغاة والظالمين ، خالدون مكرّمون .طاووس اليماني وتنقل كتب الحديث والتاريخ عن طاووس اليماني - وهو فقيه من التابعين - حكاية دخوله على هشام بن عبد الملك ،حين حجّ ايام خلافته وما حفل به ذلك الدخول ،من ملابسات وأقوال ، جعلته حَدَثاً جديراً بالتدوين ، وجعلت استذكاره عبرةً نافعة لكل المسلمين .تقول القصة :" قدم هشام بن عبد الملك حاجاً ايام خلافته فقال أئتوني برجل من الصحابة ، فقيل :قد تفانوْا ، قال :فمن التابعينفأتي بطاووس اليماني ،فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلّمْ عليه بامرة المؤمنين ، بل قال :السلام عليك .ولم يُكَنِه ، وجلس بازائه ، قال :كيف أنت ياهشام ؟ "وواضح من طريقة دخول طاووس ومن طرز حديثه ، انه لم يكن مستعدّاً لممارسة كل الطقوس التي فرضها الطغاة على الناس، وخاصة سلاطين بني أميّه الذين جعلوا الخلافة ملكاً عضوضاً وحولوها الى كسرويه وقيصريه لقد خلعَ " طاووس " نعليه بحاشية بساط السلطان وسلّم عليه كما يسلم على سائر الناس دون ذِكْرٍ أو إشارة الى سلطانه ..!!ثم انه لم يخاطبه بأية كُنْيّة ، وأضاف الى ذلك كله ، أنْ جلس بازائه ، ووجه سؤاله قائلاَ :كيف أنت ياهشام ؟تماما كما لو كان قد التقى بأي رجل عادي وهذا ما جعل هشام بن عبد الملك يتميّز من الغيظ ، ويأخذ منه الغضب مأخذاً فوجّه سؤاله الى طاووس قائلاً :" ما الذي حملك على ما صنعت ؟قال: وما صنعتُ ؟فأزداد غضبه فقال :خلعتَ نعليك بحاشية بساطي ، ولم تسلّم عليّ بأمرة المؤمنين ، ولم تكنني وجلست بازائي وقلتَ :كيف أنتَ ياهشام ؟انّ هذا التأثر انما ينشأ ،من حبّ الطغاة لأنفسهم ،ورغبتهم في ان يضفي عليهم زوارُهم أعظم الألقاب ، وأجلّ النعوت وان يتصاغروا أمام عظمة سلطانهم ..!!!وكل ذلك لا يُقدم عليه الاحرار ،ولا يطيقه الابرار ، لعلمهم بما يجترح الطغاة من مظالم وأوزار ، لا يزدادون بها من الله الا بُعداً ، ومن الناس الا كرهاً ومقتاً .انّ طاووس لا يعدم الحجة ولا يعجز عن إجابة هشام بما يُفحمه فقال :(( أما خلع نعلي بحاشية بساطك فاني أخلعها بين يدي رب العزّة كل يوم خمس مرات ولا يغضب عليّ لذلك .وأما قولك :لم تسلّم عليّ بأمرة المؤمنين ، فليس كل الناس راضين بأمرتك ، فكرهتُ أنْ أكذب وأما قولك :لمْ تُكنّني ، فان الله عز وجل سمى أولياءه فقال :يا داود ويا يحيىويا عيسىوكنّى أعداءه فقال :( تبّت يدا أبي لهب )وأما قولك :جلست بازائي ، فاني سمعت أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) يقول :اذا أردتَ ان تنظر الى رجل من أهل النار، فانظر الى رجل جالس ،وحوله قوم قيام ))وهذا أفحم طاووس هشاماً ، بعد أنْ مرّغ كبرياءه بالوَحْل ، ولم يعر أي اهتمام لتوقعاته اللا مشروعه ... والسؤال الآن :لو كان المسلمون جميعاً ينهجون في تعاملهم مع الحكّام منهج " طاووس اليماني " هل يبقى ثمة من مجالٍ لنمو بذور التفرعن والتفرد عند الحكّام لتصل بهم في نهاية المطاف الى حد الدكتاتورية المطلقة ؟ان الخنوع والملق،والمجاملات الرخيصة أمراض مزمنه فتاكه ،لاتقل خطراً عن نزعة التسلط والاستعلاء عند الحكّام .ان المجتمع الذي يُفرز أرتالا من المداهنين والانتهازيين والمصلحيين يُبتلى بالحكام المستبدين .وان المجتمع الذي يفرز الأحرار والابرار لا يقاسي ما تقاسيه تلك المجتمعات المهزومة نفسياً وروحياً .انك اليوم تجد الانتقادات ، والشكوى من سوء الأداء الحكومي متَفشيّهَ في عموم الأوساط والمحافل الاجتماعية ، ولكنك لا تجد الا نادراً ، من يصارح المسؤولين بتلك الشكاوى ، حين يلتقيهم وجهاً لوجه ان لم تجد العكس ..!لماذا هذه الازدواجيه المقيته ؟ولماذا لانملك الارادة الحره ، والجرأة الكافيه ، لمصارحة المسؤولين بالحقائق ؟ان المصارحة الصادقة ، البعيدة عن الدوافع المشوبة بالأغراض الشخصية أو السياسية ، لابُدَّ ان تحظى عند المسؤولين أنفسهم بالتقدير والتثمين لأنها الخطوة الاولى نحو التصحيح والتدارك .أما المصانعة فانها لا تحمل الا الاغراء باستمرار الخطايا والأخطاء، وفي ذلك ما فيه من مفاسد وسلبيات .
https://telegram.me/buratha