المقالات

لا صوت يعلو على صوت المعركة

1158 23:18:00 2011-12-27

علي بابان وزير التخطيط السابق و القيادي بإئتلاف دولة القانون

لا صوت يعلو على صوت المعركةعندما تحتدم الصراعات السياسية فهناك دائما ضحية واضحة المعالم وثمن باهظ يتوجب دفعه في الاقتصاد ومعايش الناس. عندما تسود المفردة السياسية وتتصدر العناوين وتستحوذ على الاهتمام تنزوي المسائل الاقتصادية في موضع أدنى ويغمرها الظلام ويصبح من الهزل أن يتناولها المرء أو يوجه الأنظار لها، فيما القضية السياسية تزداد توهجا وإثارة...

يحدث هذا في بلادنا حيث "لا صوت أعلى من صوت المعركة" السياسية ولا أولوية تتقدم عليها وكل المشاريع والأجندات الاقتصادية مؤجلة ومؤخرة حتى يتم الحسم السياسي الذي قد يحصل في سنة أو قد لا يحدث في عشر سنوات...

المفردات السياسية والأيديولوجية هي الأكثر جذبا وإثارة في مجتمعاتنا أما الاقتصاد فيكفي فيه طرح بعض الشعارات العامة الخالية من الوضوح والتفاصيل.

يحدث هذا في بلادنا ودول العالم الثالث ولا يحدث في الدول المتقدمة لأن أجندة السياسة عندهم تبع لقضايا الاقتصاد وفرع منها، وليس العكس كما هو حاصل عندنا.عندهم يختلفون على السياسات الضريبية وكيفية مواجهة البطالة وسبل مكافحة التضخم، وخلافاتنا تدور حول الحصص والمناصب والصلاحيات وتوزيع مغانم الدولة.

هم أدركوا بعد تجربة تاريخية طويلة أن الأمم الغنية هي الأمم القوية، وأن لا قوة بلا ثروة وازدهار وأن المجتمعات الفقيرة عرضة لكل الأمراض وهي مخترقة حتى النخاع في سيادتها واستقرارها وسلامها الاجتماعي.

عندهم هناك القليل من الحديث عن الإيديولوجيات والكثير من الحديث عن التكنولوجيا والاقتصاد ورفاهية الإنسان.

أعود إلى دفاتري القديمة وأستعير منها بعض الجمل التي سطرتها في أول افتتاحية من مجلتي "الأوقات العراقية"- المأسوف على شبابها- حيث كان عنوان الافتتاحية آنذاك: "كثير من الاقتصاد وقليل من السياسة"، وأردت في حينها من هذه الجملة أن ألخص رسالة المجلة كلها: "في مجتمعنا اليوم الكثير من السياسة والقليل من الاقتصاد، لدينا حجم هائل من الشعارات والبرامج والإيديولوجيات التي تندرج تحت تعريف السياسة ولدينا القليل من الخطط والرؤى والبرامج والإستراتيجيات الاقتصادية، وهذا وضع معتل لا ينبغي له أن يستمر.

نملك الكثير من الزعماء والمتزعمين والخطباء المفوهين والقادرين على الحديث في السياسة وشؤونها، ولدينا عدد ضئيل ممن يتحدث بكفاءة عن هموم البناء وتحديات الاقتصاد وتصورات التنمية.

في دول العالم المتحضر تتمحور السياسة حول الاقتصاد، وتدور في فلكه، وفي بلادنا يحدث العكس، الناخب في الدول المتقدمة يقرر اختياراته في ضوء برامج المرشحين الاقتصادية وسجلهم في هذا الجانب، وليس وفق انتماءاتهم السياسية.

وفي العراق كل شيء خاضع للسياسة وتصنيفاتها فنظرة واحدة مستبصرة لأوضاعنا تدلنا على أن الازدهار المعاشي يمكن أن يصنع الكثير للمجتمع العراقي وأن يقلب المعادلات السياسية رأسا على عقب ويعيد رسم الخارطة الحزبية في مجتمعنا.

السلم الأهلي مرتبط برضى المواطنين، ولا يمكن لنا أن نتوقع سلما وأمنا في مجتمع تضربه أعاصير الحرمان والمعاناة. ففي ظل الفقر والعوز فان كل قيمنا الاجتماعية مهددة، والعالم الإسلامي اليوم ونحن جزء منه يواجه هجمة حضارية لأنه لم يستطع أن يبني أنموذجا متقدما في بلدانه ولا أن يجلب الرخاء لمواطنيه، والتخلف الاقتصادي ليس قدر المجتمعات المسلمة بل العكس هو الصحيح تماما، وما لم تحصن مجتمعاتنا نفسها بالازدهار الاقتصادي فإنها ستكون عرضة لأخطار شتى لا حصر لها.

في مجتمعنا العراقي محرمات كثيرة سقطت تحت وطأة الحاجة والحرمان والمعاناة، هذه حالة يجب أن يفكر فيها السياسيون ويتمعنوا في نتائجها لا أن يسجنوا أنفسهم داخل شرنقة من الشعارات والإيديولوجيات التي لا تطعم خبزا.

عندما فرض الحصار الاقتصادي على العراق في عام 1991 اتضح لنا أننا لا نملك اقتصادا راسخا ومحصنا يستطيع أن يتغلب على الحصار وأن يهزمه ومنذ تلك اللحظة هُزِمَ العراق وسقط مجتمعه، حدث هذا في عام 1991 ولم يحدث في عام 2003. لذا لا فائدة ولا جدوى من الحديث عن قيم ومبادئ وكرامة وسيادة في ظل الفقر والتخلف والعوز والمعاناة، والإيديولوجيات التي تقود إلى التراجع هي إيديولوجيات فاشلة حتما لأنها عجزت في اختبار الحياة.

القوة السياسية إذا لم تستند إلى اقتصاد متين فإنها تكون عرضة للتلاشي والسقوط وما تجربة الإتحاد السوفييتي السابق عنا ببعيدة. وهنالك العديد من الشواهد. فالاقتصاد القوي هو بالتأكيد قوة سياسية ولكن العكس ليس صحيحا دائما، فالمنتصر في المعارك كما يقول نابليون هو "الذي يملك آخر دينار، وليس المنتصر من يملك آخر طلقة".

هناك من يتساءل كيف يمكن لمجتمع تحاصره المصاعب والخلافات السياسية أن يولي وجهه صوب الاقتصاد ويدير ظهره لتلك التحديات ويتغافل عنها فيما هي تستهدف وجوده وكيانه، ونقول أن تركيزاً للأنظار على الاقتصاد والازدهار بإمكانه أن يعيد ترتيب الأولويات لأي مجتمع وأن يدخل تغييرا جذريا على اهتمامات الوطن والمواطن، فالرخاء يمكن أن يلغي الكثير من اشكاليات السياسة، لا داخل المجتمع الواحد فقط، وإنما حتى على صعيد العلاقات مع الدول خصوصا عندما تصبح المصالح الاقتصادية الاهتمام الأول للدول والأفراد، فالأمم تكتسب المزيد من التماسك وتعيد حساباتها وفق تلك المصالح، ولا يمكن أن نعتبر هذا الأمر منهجية خاطئة فهذا منطق متهافت، ولكنه منهجية علمية أدركتها الأمم المتحضرة والمزهرة وشادت نهضتها على أساسها.

نريد أن ننقل اهتمام المواطن العراقي إلى مدارات جديدة تنأى به عن الآفاق الضيقة والنقاشات العقيمة والمشاعر المتخلفة، ونريد لساستنا أن يسبحوا في مياه جديدة ونقية يكون الصراع والتنافس فيها بأدوات مستحدثة بعيدا عن المياه الآسنة التي تلوثت بخلافات وتنافسات عبثية.

هل أبدو (لا واقعيا) و(أعيش في كوكب آخر بعيدا عن العراق) عندما أطرح مثل هذه المسائل؟ اليوم ونحن نعيش في هذا الظرف الذي تحتدم فيه الصراعات السياسية وتصل لتهديد وحدة الوطن، قد يرى ذلك كثيرون ولكن حسبنا أن ننبه إلى الثمن الفادح الذي يتهدد الاقتصاد الوطني جراء حالة عدم الاستقرار السياسي التي تضربنا منذ ما يزيد على الثلاثة عقود. فالزمن متوقف في بلادنا منذ ذلك التاريخ على صعيد الاقتصاد والبناء ونحن منشغلون بمعارك السياسة الداخلية والخارجية فلم نبن كيانا راسخا ولم نعمر اقتصادا مزدهراً.

في آخر المطاف المواطن لن يطعم أولاده شعارات، ولن يبني لهم سقفا بإيديولوجيات وغداً أو بعد غد سيطالب المواطن بحصاد ملموس لأفعال السياسيين ولا يمكن لتغذية العصبيات وإشعال التوترات أن تكون أداة لإشغاله وصرف أنظاره إلى مالا نهاية.

أولئك الساسة الذين يشعرون بسعادة لأنهم يستطيعون حشد الجموع تحت رايتهم بسبب العصبيات والشعارات قد لا يستطيعون ذلك في المستقبل القريب عندما "تذهب السكرة وتأتي الفكرة" كما يقول أبو نؤاس ويكتشف المواطن أن الساسة ما جلبوا له خيرا ولا حققوا له رفاها ويصبح في مواجهة الواقع الذي صنعناه بأنفسنا وتقصيرنا.

أشبه حال الساسة اليوم في العراق بأم وأب منهمكين في خلافاتهم ومشاجراتهم تاركين أبناءهم يعانون التمزق، ويتخلفون في دراستهم، وتضربهم الأمراض، وتتدهور أخلاقهم.

أي مستقبل للاقتصاد العراقي في ظل هكذا توترات سياسية وانقسام مجتمعي؟ وأي انعكاس لهذه التجاذبات التي تنذر بأخطار شتى على مستوى معيشة العراقي؟ أية إستراتيجيات أو سياسات حكومية يمكن اعتمادها لبناء الاقتصاد والدولة ونحن في حال كالذي نعيش فيه اليوم؟

يجول بخاطري ويشد اهتمامي مستقبل (70) مليونا من العراقيين الذين سيعيشون على هذه الأرض عام 2040، عراقيو الزمن الآتي الذين يصح أن نصفهم بأنهم "أولاد الخايبة"، فما هو الرصيد الذي سنورثهم إياه؟ هل سنورثهم الأحقاد والضغائن والثارات، أم أننا سنورثهم ازدهارا وحضارة ونماء؟

أخشى ما أخشاه هو أن تنقضي حقبة "الفورة النفطية" في العراق بعد عشر سنوات أو نحو ذلك ونحن مشغولون بالصراعات ولا نستطيع أن نستثمر تلك الفرصة الذهبية في بناء اقتصادنا، وتحقيق الازدهار لمواطنينا، فإذا ما انقضت تلك الفترة والعراق في حالة صراع داخلي وعدم استقرار لنكون بذلك قد أهدرنا فرصة قد لا تتكرر حتى بعد مائة عام.

غداً عندما تذبل أثداء النفط عن العطاء ويشحب وجه دجلة والفرات بعد عقدين أو ثلاثة من الزمن فإن مصداقية الكثير من الإيديولوجيات والشعارات والزعامات ستكون على المحك وغالبا ما يكون كثير من الساسة قد غادروا الحياة آنذاك، ولا ندري كيف سيذكرهم العراقيون في ذلك الوقت.

إن حروب داحس والغبراء "العراقية" وصيحات "يا لثارات العرب" أو لنعدل الشعار إلى "يا لثارات العرب والأكراد" مراعاة للوضع العراقي! حيث لا صوت إلا صوت المعركة ستكون فادحة الأثمان على مستقبل العراقيين وستهدر فرصة البناء والتقدم لحياتهم وحياة أبنائهم. على الساسة أن يتذكروا بأنه يوجد لهذا الوطن "عيال" ينبغي التفكير في مستقبلهم، عيال سيكون تعدادهم سبعين مليونا خلال ثلاثة عقود من الزمن، وهؤلاء جديرون باهتمام الساسة والقادة الذين يشحذون سيوفهم وسكاكينهم هذه الأيام.علي بابان

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
المهندسة بغداد
2011-12-28
مقال يضع يده على الجرح حقيقة بحاجة الى كثير من الاقتصاد وقليل من السياسة السؤال اعتدنا على ان تخرج الحقيقة المرة من فم وزارة التخطيط فلماذا لا تكون لهذه الوزارة سلطة يمكن ان تترجم من خلالها رؤياها
عراقي
2011-12-28
مقال جدا رائع ومسؤول
علي السيد مهدي
2011-12-28
العراق منذ زمن صدام والى اليوم لا يوجد فيه اقتصاد ويعتمد على النفط ولكن يبدوا اننا لا نستفاد من اخطاء الماضي هل نسينا عندما وصل سعر البرميل الى 8 دولار وعل اساسها دخل صدام الكويت ويمكن ان يحدث هذا في اي وقت فاذا نزلت اسعار النفط ولفترة طويلة اعتقد ان الحرب في العراق سوف تشتعل الحرب وتعم الفوضى ليس السبب مواضيع ساسية او طائفية ولكن بسبب مشاكل اقتصادية. يجب ان يفكر العراق بالاقتصاد لان حل كثير من المشاكل و تجنب كثير منها يكمن في اقتصاد قوي وشكرا للسيد على بابان
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك