المقالات

الموازنة العراقية...ليس كل ما يلمع ذهبا..!!

1211 14:06:00 2012-02-03

عضو دولة القانون علي بابان وزير التخطيط السابق

أرقام المليارات في الموازنة العراقية تبهر الأنظار...وبلوغ الموازنة رقم المليار دولار ظاهرة تستحق الإنتباه خصوصا بعد ما تم تعديل التقديرات لكي تصل إلى هذا الرقم... و لأن خداع الأرقام هو أسوأ أنواع الخداع كما أن ليس كل ما يلمع ذهبا فلن نشعر بالغبطة ونحن نقرأ أنباء هذه المليارات المرصودة في موازنة العراق.. فالعبرة في أية ميزانية ليست بأرقام تخصيصاتها بل بمقدار ما تحدثه في (تنمية حقيقية)، وقدرتها على وضع الإقتصاد الوطني في مدار (صعودي ثابت)، وهي أعتبارات لا يمكن الزعم مطلقا بأن موازنة 2012 أو ما سبقها من موازنات تسعى إلى بلوغها ولو بشكل من الأشكال.

حجم الأموال في أية ميزانية ليست معياراً لأي شيئ وهي بالنسبة لنا في العراق مؤشر على حجم (الهدر والفرصة الضائعة) ليس إلا ، والدول المتقدمة تقيس ادائها الإقتصادي بمعايير مختلفة ولكن أهمها ما يصنعه الاقتصاد المحلي من فرص وما يخلقه من وظائف حقيقية في قطاعات إنتاجية متعافية وقادرة على المنافسة والإبداع.

في كل عام تطرق أسماعنا نفس العبارة (الميزانية الأضخم في تاريخ العراق) ...والتي توحي بسجل مضطرد من النجاح والإنجاز ، ولكن ذلك بعيد عن الحقيقة تماما فكل مافي الأمر أن الميزانية تكبر بفعل التضخم العالمي للأسعار وزيادة أسعار النفط بشكل مضطرد، وليس في الأمر نجاحا ولا إنجازاً.

الموازنة العراقية (بلا بوصلة) وهذا أخطر مافي الأمر، ولا يقتصر ذلك على موازنة هذا العام، ولكنه ظاهرة متكررة منذ ما يزيد عن الثلاثين عاما، ولذلك فهذه المليارات المرصودة تذهب سدى ، ولا تحقق أية نتيجة تذكر، فطوابير البطالة تزداد أتساعا ونسبة الذين يقبعون تحت خط الفقر تكبر بإستمرار... فيما يعلو الصدأ والملوحة أدوات الإنتاج في الزراعة والصناعة حيث يمكن اعتبار (تعطل العملية الإنتاجية) علة العلل في الإقتصاد العراقي.

من يتأمل في أبواب الموازنة العراقية يجد أنها ليست سوى عناوين أو مبررات لتوزيع الأموال على الفئات الإجتماعية في ظل غياب أية عملية إنتاجية حقيقية ، وهي تجسيد لفكرة (المجتمع الريعي) الذي يوزع أموال النفط على مواطنيه بذرائع مختلفة دون أن يكون لذلك أية أثار ثابتة أو تراكمية في عملية البناء الإقتصادي.

الكل في العراق يتحدث عن (توزيع الثروة) ولا أحد يشير إلى (تنمية الثروة) وتعبير (توزيع الثروة) يلخص فلسفة (المجتمع الريعي وثقافته) بأوضح صورة حيث تقتصر مهمة الدولة على تقديم الأموال لمواطنيها دونما أية إنتاجية.

ما أن تطرح الموازنة في العراق للنقاش حتى تبدأ (معارك التخصيصات) بشتى أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، داخل البرلمان وخارجه.، فالوزارات فيما بينها تتصارع للحصول على التخصيصات، أقليم كردستان تبدأ خلافاته مع المركز حول نسبة الـ17% وتوابعها...، المحافظات تقتتل مع بغداد حول حصصها، الكتل السياسية تبدأ بإستعراض عضلاتها وإثبات ذاتها وأنها وحدها دون غيرها حامية حقوق الفقراء والمحرومين...

 كل الصراعات تثور ولا جدال حول سياسات التنمية ومنهجياتها، ولا دموع تذرف على أجيال العراقيين القادمة الذين سيجدون العوز والبطالة في إنتظارهم.

من يدقق في الخلافات بين الكتل السياسية حول مسائل الميزانية والاقتصاد عموما يكتشف تواضع الثقافة الاقتصادية لأصحابها كما يصطدم بالتزلف الذي يبديه بعض الساسة للجماهير ومحاولتهم إرضاء المطالب الآنية للناس على حساب المصلحة الإقتصادية بعيدة المدى... ويذهل المرء حين يرى غياب العناوين الكبيرة والمحاور الأساسية التي تستحق أن تكون فعلا موضع إهتمام الساسة والقادة كما يتفاجأ المراقب حين يلاحظ شيوع ثقافة اقتصادية سطحية ومبتذلة تجعل دغدغة مشاعر العامة وكسب رضاهم هدفها الأول حتى ولو على حساب التضحية بالقضايا المفصلية وإزاحة التحديات الخطيرة من دائرة إهتمام الجمهور ووعيه.

 

اخطر ما يمكن أن تتعرض له مسائل الإقتصاد في أي بلد هو أن يخضع لمحاولة الساسة استخدامه في كسب رضا جماهير تعاني من الحرمان وابتزازهم من خلال إغرائهم بمكتسبات وقتية وتسكين الآمهم بجرعات موضعية فيما المرض العضال يفتك بمفاصل الإقتصاد الوطني.

 

لا أضر على الاقتصاد من إخضاعه لمطالبات فئوية لها أول وليس لها أخر واستثمار بعض الساسة هذه المطالبات (المشروعة في الأصل) لحصد النقاط السياسية وتضخيم شعبيتهم وبالتأكيد فإن المشكلة لا تكمن في عدالة ووجاهة هذه المطالب ولكن المشكلة تتمثل في بعثرة الأولويات الاقتصادية وارباكها والضغط على الموارد وتقديم الإستهلاك على الاستثمار واحتياجات اليوم على احتياجات المستقبل وهي (اعتبارات قاتلة) لأي اقتصاد يعاني من ندرة الموارد.

 

خذ مثلا على ذلك اصرار بعض القوى السياسية في العراق على توزيع حصة من دخل النفط لكل مواطن، والسؤال هنا ما الذي يمكن أن تفعله ألف أو الفين دولار للمواطن العراقي...؟؟

 

بالتأكيد هذه المبالغ ستذهب للإستهلاك البسيط ولن يجري استثمارها في البورصة العراقية مثلا، في المقابل لو حسبنا تكلفة هذه المبالغ على الموازنة العراقية نجد أنها تبلغ المليارات فهل من المعقول أن تتوقف الدولة عن أي إنفاق في خدمات الكهرباء والمياة والخدمات الطبية والتعليمية ناهيك عن المشاريع الزراعية والصناعية كلها لتعطي المواطن مبالغ لا تسمن ولا تغني من جوع تذهب إلى الإستهلاك البسيط المباشر برمتها..؟؟!!

 

إن هذا في الواقع يلغي دور الدولة ويطيح بمصداقيتها ويطرح الشكوك حول أهليتها وهنا يكمن الوجه الأخر للمشكلة فالفشل والعجز الحكومي بادي للعيان والإدارة العراقية في أسوأ حالاتها بالفعل منذ تأسيس الدولة العراقية، وهي بعجزها وفشلها وفسادها تغري وتعزز مثل هذه الطروحات التي تدعوا لتقديم الأموال للمواطن ليتدبر أمره بديلا عن الدولة الكسيحة والعاجزة، غير أننا عندما نصل إلى مثل هذا الإستنتاج في الحكم على فشل الدولة وأجهزتها علينا أن نتحدث عن الحلول الجذرية والحاسمة لمشكلة الفشل الحكومي لا أن نتجه لدفع المال للمواطن لكي يعمل بديلا عن الدولة.

 

في ظل غياب القطاع الخاص العراقي ومحدودية دوره وتخلف أدائه ومع انعدام أو شبه إنعدام الاستثمار الأجنبي في العراق يصبح الإنفاق الحكومي هو المحرك الحقيقي للدورة الإقتصادية ويغدو حدث إقرار الموازنة العامة هو الحدث الأبرز على صعيد الإقتصاد الوطني ، ولكن ما الذي تعنيه أرقام الموازنة بالنسبة للإقتصاد الكلي في العراق...؟؟

 

علينا أن نطرح ابتداءاً كامل مبلغ الموازنة التشغيلية من حساباتنا ، ونعتبرها (صفرا مربعا) و(ثروة تحرق في الهواء) لن يتولد عنها أي مردود لأنها لن تذهب لإنعاش الزراعة والصناعة العراقية التي هي شبه غائبة أو مفقودة، ولن تحرك الطلب الداخلي في العراق لإنتفاء وتدهور القاعدة الإنتاجية الوطنية بل ستذهب في شطرها الأعظم لتلبية الحاجات الإستهلاكية من البضائع المستوردة، سوف نشتري بها الخضار والفواكه المستوردة من دول الجوار والملابس الرديئة الصنع والبضاعة الأقل كفاءة وجودة من هذه الدولة أو تلك، بمعنى أخر أن هذه الأموال لن تخلق وظائف في الداخل ولكنها ستخلق وظائف في الدول التي يستورد العراق منها.

 

أما الموازنة الإستثمارية- وهنا تسكب العبرات- كما يقولون، فالمسؤولون يبشروننا كل عام بأن نسبتها إلى عموم الموازنة زادت إثنين أو ثلاثة بالمائة وأن تخصيصاتها تضخمت بمليار أو إثنين أو ثلاثة عما سبقها من السنوات من دون أن يقولوا لنا بأن هذه المليارات لا تكفي لسد إحتياجات قطاع واحد فقط من القطاعات الإقتصادية أو الخدمية في العراق لو أردنا فعلا أن نبعد ذلك القطاع عن حافة التخلف ونضعه على الطريق الصحيح ونصل به إلى مستوى مقارب للدول المجاورة على الأقل...

 

بالفعل فإن خمسة عشر ملياراً أو عشرين ملياراً من الدولارات لا تعد أمرا كبيرا أبداً بالنسبة للإحتياجات السنوية لقطاعات كالتعليم والصحة ولا نقول البلديات والصناعة والزراعة والكهرباء...

 

أقولها وأتمنى أن يسمعها كل حريص على العراق والعراقيين ، وأن يضعوها نصب أعينهم... هذه التخصيصات المتواضعة في المنهاج الإستثماري لن تبن العراق ، ولو بعد مائة عام... إن هذه التخصيصات هي كقطرات الماء الشحيحة التي لا تكفي لوضوء منافق...!!

 

هذه المليارات المتواضعة المدرجة في الموازنة أعجز من أن تحدث تنمية حقيقية أو رخاء خصوصا مع (ضياع البوصلة) وفقدان المفهوم الشامل للتنمية ومع هذا الجهاز الحكومي المتهالك المصاب بالموت السريري والفساد المتأصل...

 

يواجه العراق ظاهرة (تبدد الإنفاق) وتوزعه إلى (مبالغ صغيرة) لا تسد الرمق بالنسبة للقطاعات والأنشطة والمحافظات، ورغم أن هذه الظاهرة يتم تبريرها بــ(عدالة التوزيع وشموليته) غير أن حصيلة ذلك تؤول إلى ضألة التخصيصات للجميع وعدم كفايتها بالمطلوب للنهوض بتلك القطاعات ووضعها في مدار مختلف لا بل أنها ربما تكون أقل مما تحتاجه لتسيير أعمالها بشكل طبيعي ، هذا يقود إلى (نمط من أنماط التنمية الترقيعية) التي تسود الممارسة الحكومية في بلادنا حيث (الترقيع) و(الحلول الجزئية) و(العلاجات المسكنة) هي السائدة وبالقطع فإن ذلك لن يقود إلى تنمية حقيقية بأي شكل من الأشكال...

قلنا في السابق ونكرر اليوم بأن العراق أمام فرصة استثنائية قد لا تتكرر وهو أن نستثمر الزيادة المتوقعة في عائدات النفط والمتوقعة خلال العشر سنوات القادمة، ونقوم بتوجيهها نحو بناء قاعدة انتاجية للاقتصاد العراقي ووضعه في مدار صعودي ثابت، بالطبع هذا يحتاج إلى رؤية تنموية واضحة وإدارة حكومية كفؤة وفاعلة وسياقات عمل مختلفة تماما عماهو موجود لدينا، وبغياب ذلك سنهدر هذه الفرصة وسوف يسقط العراق في (دوائر الفقر الحلزونية) التي لن يستطيع الخروج منها حيث تهيئ كل واحدة منها لما يليها هبوطا إلى الأسفل لتزداد معاناة المواطن وهموم الوطن في أن واحد...

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك