بقلم أحد العلماء
اطلعت على مقال: هكذا تشيعت إيران للشيخ عبد الحافظ البغدادي الخزاعي، وقد وجدت الشيخ قد جازف بما لا يتناسب والبحث التاريخي الدقيق، بل يمكن القول أن غالبية ما كتبه ربما اعتمد فيه على ما يوجد في الوكيبيديا وهي لمن يعرف موسوعة لا مصداقية لمعلوماتها بالضرورة خصوصاً في المسائل ذات الصلة بالمواضيع العقائدية، وقد وددت التعليق عليه في مقاله إلا أني وجدت التعليق لا يفسح لي المجال لتوضيح الفكرة خصوصاً وأن المساحة المحددة للتعليق لا تفي بالغرض، فآثرت أن أكتب الملاحظات التالية:
أولاً: لا يوجد في التاريخ أي حدث يمكن ان نعزوه لسبب واحد أو عامل واحد، بل لا بد أن نشهد له الكثير من الخلفيات والحيثيات التي تتداخل مع هذا الحدث لتعطيه صورته الاخيرة، وكلما كان الحدث عميق الغور في الأوضاع الاجتماعية كلما كانت العوامل التي تدخل في بلورته كثيرة ومتعددة، وموضوع كتشيع دولة كبيرة كإيران مع إرثها السني الكبير لا يمكن أن يعزى لعامل واحد.
ثانياً: لا شك ان حادثة تشيع إيران لم تك بأمر من السلطان التيموري أوليجايتو (1280ـ1316) الذي عرف من بعد إسلامه بمحمد خدابنده والتي تعني عبد الله، وإنما جاءت ضمن السياقات الفكرية المعتادة، ولكن لا شك ان حادثة السلطان والتي تمت على يد العلامة الحلي رضوان الله عليه كانت مفتتحاً لعملية تعميم التشيع في بلد كانت عاصمته تعتبر الأشد نصباً من بين جميع البلدان وقصة صاحب الغارات الذي حدث بروايات في فضل أهل البيت عليهم السلام في الكوفة فطولب أن يتقي أهل الكوفة خشية سماع نواصبها آنذاك كي لا يؤذوه فأقسم أن يروي هذه الأحاديث فسأل عن أي البلدان أشد نصبا وعداوة فقيل له أصفهان، فذهب ورواها هناك ما يظهر لنا طبيعة محتواها العقائدي، واصفهان هذه هي عاصمة السلطان اوليجاتو خدابنده بالتحديد ولكنها كانت قبله بيد السلاجقة منذ عام 1038 ميلادي، وكان هؤلاء من المشهورين في النصب، ولكن ذلك لا يعني أنها الصفة الوحيدة لكل أصفهان بل هي السمة الغالبة، كما ان إيران المعروفة يومذاك هي دولة ولايات ودويلات وأقاليم، وليست دولة مركزية واحدة، ناهيك عن أن الوضع العقائدي كانت فيه جزر للشيعة كما هو الحال في قم المقدس والري والأهواز ونيسابور وفي بعض مناطق الديلم وهي مناطق شمال طهران، ولكن البحر العام كان سنياً، وذلك قبل سيطرة الإسماعيليين على بعض من أجزائها.
ثانياً: الحراك العقائدي في إيران ليس جديداً بل هو منذ عصر أئمة الهدى صلوات الله عليهم، وقد كانت قم والأهواز ونيسابور مراكز تحرك كبيرة جداً لوكلاء الأئمة عليهم السلام وقد انتجت تلك البرهة عدداً كبيراً من العلماء كما هو الحال في احمد بن محمد بن عيسى وعموم العلماء الأشاعرة وعلى رأسهم سعد بن عبد الله واحمد بن محمد بن خالد البرقي والحسيين بن سعيد الأهوازي وأخيه الحسن وابراهيم بن مهزيار، كما كان للفترة الاخيرة من حياة علي بن الإمام جعفر الصادق ع اثرها المتميز، هذا فضلاً عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي وعبد العظيم بن عبد الله الحسني المعروف بالشاه عبد العظيم ومحمد بن الحسن الصفار، وهذه الفترة هي التي مهدت لولادة الجيل الذي لا زالت آثاره واضحة بين أيدينا وأعني بذلك سهل بن زياد الآدمي ومحمد بن الحسن بن الوليد الشيخ الصدوق ووالده والشيخ ابن قولويه ووالده وأخيه، وقد تعاقب من بعدهم فريق كبير من العلماء ممن بقي يزرع في تلك الأرض بطريقته وإمكاناته الخاصة، ولكن مما لاشك أن تشيع السلطان وأمره باعتماد التشيع في المخاطبات كان له أثره الكبير في انتشار التشيع في وسط العامة، فالسلطان وإمكاناته ومنها ما قيّضه للعلامة الحلي وولده فخر المحققين من إمكانات في المدرسة السلطانية التي أنشأها للعلامة الحلي وأخرى سفراته التي كان يصطحب فيها العلماء ومن جملتهم العلامة الحلي وما تحفل هذه السفرات من إقبال للعلماء والمفكرين المحاججات التي حصلت بين يديه بين العلامة وبين علماء أهل السنة تركت آثاراً كبرى لما في طبيعة هذه المحاججات من إفحام وإفهام الخصوم، والحق الذي لا يجوز إنكاره أن العلامة نصير الدين الطوسي المعروف بالخواجة كان له أثره الجاد، ولكن ترافق إمكانات السلطة مع مثابرة وعلم العلامة الحلي ومن جاء من بعده من تلاميذه العلماء مرورا بالشيخ البهائي والمحقق الكركي وابنه إلى عهد الشيخين المجلسيين ولاسيما الثاني والذي كان في مقام الوزارة وهو صاحب كتاب بحار الأنوار كان هو الأكثر طغيانا من غيره في هذا المجال، ومما لا شك فيه أن معارك الصفويين الذين اعتنقوا المذهب من بعد السلطان التيموري قد اسهمت في نشر المذهب للتداخل بين الشأن العقائدي والصراع السياسي الذي نشب مع العثمانيين، وما يمكن أن يضاف إلى العوامل المساعدة في هذا المجال هو الطغيان الذي كان يسم االدولة الأيوبية ودولة السلاجقة والدولة الخوارزمية التي قامت على انقاض السلاجقة، وهذه هي التي تسبب بالغزو المغولي بعد أن نكث محمد خوارزم شاه بمعاهدة بينه وبين المغول فقتل تجارهم وغدر بهم، مما استثار جنكيز خان وحرك جيوشه على إثر ذلك، وكان محمد هذا وآبائه من المعاندين بشدة للتشيع، مما جعل أعداءهم يقبلون على التشيع تلقائياً.
وعليه فإن التشيع في إيران ليس صفوي المنشأ والانتشار كما طبّلت لذلك الدعاية العثمانية وحملتها من بعد عقول الطائفية السياسية والمذهبية حتى وكأنه بات حقيقة!! وهنا لا بد من التنويه إلى حقيقة غائبة تماماً عن الأنظار وهي أن الصفويين لم يكونوا ذوي اصول فارسية بل هم من أصول عربية حلبية.
ثالثاً: لا شك ان دور علماء جبل عامل كان دور كبير جداً ولا سيما المحقق الكركي وابنه والشيخ البهائي والشيخ الحر العاملي في تعميق الوجود الشيعي في إيران ذات المساحة الشاسعة، وقد استفادوا من أجواء الحرية التي أتيحت لهم، ولكن جهودهم لم تك في طول واحد، فالمحقق الكركي وابنه وتلاميذه انصرف إلى المرجعية الدينية وأعمالها، بينما انصرف الشيخ البهائي للجهود المتعلقة بالدولة مع دوره كشيخ للإسلام في العاصمة الأصفهانية ولا سيما في مجالات الإعمار وآثاره لا زالت لحد الآن تشير إلى طبيعة التفوق الهائل الذي كان يتمتع به في مجالات التقنيات التكنلوجية، وهو صاحب حمام أصفهان الذي جعله يغلي على شمعة طوال مئات السنين قبل أن يطفؤه البريطانيون في أواخر القرن التاسع عشر سعياً لمعرفة أسرار تلك الشمعة، بينما انصرف العلامة الحر العاملي للجهد الفكري فأنجر العديد من الموسوعات منها وسائل الشيعة وقد جاء عمله هذا من بعد عمل الشيخ المجلسي في موسوعة البحار والتي رآها متعبة لأهل البحث والتحصيل فحاول إخراج ما لا علاقة له بالفقه فكان كتابه هذا وقد تزامن هذا العمل مع عمل المحقق الكاشاني في موسوعته الوافي، وقد انطلقت في تلك الفترة أعمال فكرية كبيرة استمرت تثري هذا الوجود المبارك إلى يومنا هذا.
رابعاً: التسنن في إيران أعمق غوراً في الوجود الزمني مما أشار إليه الكاتب، فهو وجود تأسس مع الوجود الحكومي والسياسي لبني امية ومن بعده لبني العباس، دون فرق بين بغداد أو أصفهان او نيسابور ولهذا تجد أن الغالبية العظمى من علماء السنة في كل الاتجاهات هم من الفرس أو مما يجاورها فعلماء الحديث والمذاهب والتفسير والتاريخ وعلم الرجال والجرح والتعديل والكلام في غالبيتهم العظمى هم من الفرس تحديداً، وكان العرب من بينهم هم القلة الأقل، وبالرغم من سخف التحدث بالقوميات في هذا المجال، لأن الأفكار والعقائد والأديان لا علاقة لها بالانتماء القومي أو الشعبوي او القبائلي اساساً، ولكن جارينا سخف شبهات المرجفين ضد الشيعة بما أشرنا إليه.
خامساً: ما طرحه الاخ الكاتب في كون الجذور في إيران كانت اسماعيلية وهم كبير، نعم قيض للإسماعيليين أن يؤسسوا لدويلات في ظل الخوارزميين والسلاجقة والأيوبيين ولكنها لم تكن بعيدة الغور في الوجود الزمني وقد انتهى أمرها مع التدخل المغولي في إيران، ويمكن التاريخ لها مع حركة الحشاشين ودور الحسن بن علي بن الصباح الحميري القمي الذي تمكن من اقتحام قلعة ألموت في شمال إيران وطرد حاكمها عام 1094 واستمر وجود الحركة إلى ما يقرب 1256 حينما أنهى المغول آخر قلاعهم.
هذا ما وددت الإشارة إليه سريعاً
https://telegram.me/buratha