بقلم سماحة الشيخ جلال الدين الصغير
أفكار بلا عواطف (4)
عوالم الرغبة والإرادة والهدف المطلوب
بين أن نرغب بالشيء وبين أن نريده ثمة فاصل كبير، فليس كل ما يرغب به الإنسان يُعمل إرادته من أجل إيجاده، فهناك فرق بين ما نرغب به وبين ما نريده، فالرغبة عبارة عن اندفاع نفسي لا يتعداها، ولا تتأثر به منظومة الإرادة، وبالرغم من أن هذا الاندفاع مطلوب كزخم لتحريك إرادته، إلّا أن وجود الرغبة بمحضها لن يخرج الرغبة من عالم الخيال الذهني إلى خارج هذا العالم، لا بل ولا حتى يمكّنها من أن تعبّر عن وجودها، بينما الإرادة هي الفعل الذي يتحرك للتعبير بطريقة وأخرى عما نرغب بتحقيقه ويخفي وراءه مجموعة العوامل النفسية التي كوّنته، وما من ريب أن تكامل هذه العوامل وقوتها أو ضعفها ينعكس بشكل جاد على مقدار الإندفاع في حركة الإرادة، فالمحب كلما إزداد حبّاً كلما كانت إرادته اكثر إندفاعا، وكلما قلّ حبّه كلما وجدنا ضعفاً في إرادته، ومثل المحب تجد الغضوب والحقود والكاره وما إلى ذلك من نماذج الناس، ولهذا نقول بأن الرغبة لا مسؤولية فيها لأنها لا تخرج إلى عالم الفعل الإنساني سيّان في ذلك أن يكون الفعل ذاتياً أو جماعياً، فهي تبقى أسيرة لخيال الراغب، ولكن الإرادة مسؤولية والتزام لأنها حراك إنساني في محيط الذات أو المجتمع.
ولكن كوننا نريد الشيء لا يعني أننا سرنا باتجاه تحقيقه، فالغضوب يتولد فيه زخم هائل لإرادة جامحة مما قد يعمق فقدانه لما غضب من أجله، والعاشق قد يبلغ حد الجنون في عنفوان إرادته مما قد يجعله سبباً في هجران محبوبه، فهذه الإرادة حينما تفقد تشخيص المطلوب عندئذ قد تكون عاملاً على تعميق الفاصل بين ما يريد وما يتحقق، ونفس الأمر يسري على بقية الشرائح الإنسانية، وبالتالي فإن تشخيص المطلوب الذي نريده سلفاً هو المضمار الذي يمكن أن يجعل لهذه الإرادة نمطاً من المعنى، أو شكلاً من المسؤولية.
لو أمعنّا النظر في الهياج الهستيري الذي تشهده أي حلبة رقص لموسيقى البوب الأمريكية على سبيل المثال، وتأمّلنا في كل هذه الإرادة العنيفة التي تجعل الشباب الراقص يتصرف بالطريقة التي يتصرف بها الراقصون من قفز وتشنج وتقلص وهز لكل البدن وبطرق متعددة مفهومة وغير مفهومة، في هذا المثال نجد إرادة وبزخم عال جداً، ولكن من أجل ماذا؟ وماذا يريد هؤلاء الشباب حينما يمارسون إرادتهم بهذه الطريقة؟ قد يقال: إنهم متذمرون من المجتمع ويعبّرون عن تذمرهم بهذه الحالة، وقد يقال: إن المخدرات بشتى انواعها هي التي تجعلهم كالحالمين بهذه الشاكلة، وقد يقال: بأنهم متمردون على كل شي حتى على أنفسهم، وقد يقال: بأنهم يريدون ان يهربوا من الواقع الذي يحيونه، وقد يقال عشرات الاحتمالات، ولكن علينا أن لا نؤسر بعنف الإرادة وزخمها المنبعث في هذا المشهد، لنتساءل: أين المطلوب الذي يريد هؤلاء تحقيقه؟ فالتذمر أو العبث أو التمرد أو الهروب ممارسات في الخط النازل للأمة، وإذا كان الجيل الذي يتهيأ لاستلام قيادة الأمة بهذه الشاكلة من التصرف مع إرادته، فهل يمكننا أن نرى إلا جهلاً مغلفاً بأغلفة المتعة والرفاهية وقتل الفراغ؟!
هؤلاء يريدون ولكن ما هو الذي يريدونه؟ إنه الهروب من الواقع أو التذمر عليه بطريقة لن تزيد الواقع إلّا تنمّراً لأن المنتفض عليه والمتمرد عليه يطرق باب التغيير بطريقة من يرسف بأغلاله ويريد قيداً جديداً أحلى من القيد الأول، ولكن القيد إن كان من الحديد أو الذهب أو الحبل الليفي أو ما شاكل يبقي قيداً ليس إلا!!
وبعيداً عن التفسير يمكن لنا ان نرقب النتائج العملية لمثل هذا النمط من الحراك الإرادي، فما من شك أن المراقب للواقع التعبوي الأمريكي ما بين الحرب العالمية الأولى وما بين حرب العراق الأخيرة، سيجد أن الخط التعبوي للشباب الأمريكي ارتفع في البداية بشكل كبير حتى بلغ في معركة النورماندي عام 1944 إلى تحشيد قرابة الثلاثة ملايين أمريكي مجند وراء الجنرال إيزنهاور، وهذه المعركة التي جلب فيها المقاتلون الأمريكيون عبر المحيط الأطلسي إلى الساحل الفرنسي، عبّرت عن قوة تعبوية هائلة لدى الأمريكيين، ولم يستطع أن ينافسهم في ذلك أي حليف لهم، ولكن من بعد ما يقرب من سبعة عشر عاماً كانت هذه القدرة مورد اختبار بدا سهلاً ثم أبرز صورة مريعة لما آل إليه الوضع، فمنذ أن اشترك الأمريكيون في الحرب الفيتنامية عام 1961 حتى خروجهم الذليل منها عام 1975 تم التقاط إشارات جادة لخلل أساسي في القدرة التعبوية الأمريكية، وقد تمثلت بمعارضة الحرب والهروب الكبير للمجندين، ولكن اعتقد أن حرب العراق الأخيرة أثبتت بما لا يدعو إلى الشك أن هذه القدرة ذوت إلى حد كبير بصورة لم تجد أمريكا في شبابها قدرة القتال من أجلها فاستعاضت بنظام المرتزقة عن نظام التجنيد الطوعي أو الإلزامي، مع أن الحجة في العراق أدعى من الحجة في النورماندي لأن الإرهاب كان قد ضرب العمق الأمريكي، وأمريكا جاءت بحجة التخلص من الإرهاب، ولكن النتيجة أنها لم تستطع أن تبقى لعوامل متعددة كان احدها تلاشي القدرة التعبوية لديها، وما كان الأمر ليصل إلى هذه الشاكلة لو وجدنا أن إرادة الشباب الأمريكية التي نلاحظها في راقصي البوب تم توجيهها بالطريقة التي تنمّي فيه شعور الإنتماء، بل كانت الرغبة هو إغراق إرادة المجتمع الأمريكي بما يجعله ينسلخ من مشاعره الإنسانية وليتحول إلى مجرد آلة لخدمة عجلة المصلحة الرأسمالية، ولربما مجرد مسمار في قطعة من قطع هذه الآلة.
وعليه فإن مجرد الرغبة أو الإرادة لوحدها لا تكفي لبلوغنا ما نريد، فمن الواضح أن تشخيص المطلوب لنا يجب أن يسبق أي حراك إرادي، وإلا كان هذا الحراك عابثاً، بل ربما لم نميّز أنفسنا عن حراك الحيوانات، بل ربما فضّلنا الحيوانات علينا لأنها في الغالب تتحرك بناء على مطلوب محدد لها، والآن ما هو مطلوبنا الذي يجب أن نسعى إليه؟
يحكى أن مفتشاً يابانياً دخل إلى محل للقطع الألكترونية، وأراد أن يقتني كاميرا محددة، ولكنه ما أن وضعها في يده وأراد فتحها حتى تبين له أنها لا تعمل، وسأل صاحب المحل فقال له إن هذه هي الحالة الثالثة التي يجدها في هذه الكاميرات، وما كان منه إلا أن قفل راجعاً إلى المصنع الذي ينتج هذه الكاميرا، وسرعان ما أعلن عن إغلاق المصنع لمدة يومين، ولكن الاغلاق كان عبارة عن فتح ورشة بحث كبيرة عن طبيعة الخلل الذي يؤدي إلى عدم عمل الكاميرا، وما أن تم العثور على الخلل حتى جاء الحل له سريعاً جداً، لتتقدم كاميرا سوني وتكون واحدة من أفضل ما قدمته التقنيات اليابانية في عالم التصوير.
قرأت هذه القصة مراراً وعكستها على واقعنا، فنحن نصاب بعواصف من الخلل ويعتلينا ركام هائل من الخراب والعطب، ولكن ما من ورشة بحث عن الأسباب، ولا من ورشة للحل، بل عادة ما ينهمك المعنيون بورش للبحث عن كيفية التغطية على هذا الخلل ووسائل تخبئته عن الأنظار، بل والبحث عن سبل تحويل ما حصل إلى انتصار كبير في أنظار المتابعين متضررين كانوا أو ناظرين، وشيئاً فشيئاً أدمنّا عملية البحث على هذه الطريقة، حتى تسرب هذا الإدمان إلى يأس في عقول النخبة التي تريد أن تخرج من شرنقة الضرر، وإلى مخدر لإرادة الشرائح الشابة التي ترى نفسها هي المحشورة في عنق الزجاجة، وهي التي تدفع ضرائب ضيقه، وهي التي ستتجرع سمّها زعافاً من بعد ذلك، إذ يحكى أنها هي مستقبل الأمة!! ولعل السر في كل ذلك يعود إلى أننا لم نحدد مطلوبنا بعد.
ترى من المسؤول عما حصل في اليابان والذي يحصل لدينا؟ فاليابان فيها شعب يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، ونحن لدينا نفس هؤلاء فنحن نأكل ونشرب ونمشي في الأسواق، فما الذي ميّزهم ولم يميّزنا؟
اعتدنا على نمطين من الجواب أحدهما يتجه للبحث عن عامل واحد ويجعله جمرة الشيطان التي يرمي عليها أحجاره، والثاني لديه عقدة الإزراء بالذات وتمجيد الآخر، حتى لو كانت هذه الذات ليست موضعاً للإزراء، وحتى لو كان الآخر لا يستحق كل هذا التمجيد، وميزة هذه الأجوبة أنها أجوبة كسولة يحاول أصحابها أن يتخلّصوا من مهمة العثور على الأبرة التي سقطت في حقل الشعير، لأن العثور عليها هو عملية صعبة، حتى لو كان رتق حالنا متوقف على العثور على هذه الأبرة تحديداً، ولهذا من السهل إلقاء المسؤولية على غيرنا أو تحقير ذاتنا، لأن ذلك لا يكلفنا الشيء الكثير، قياساً إلى عملية البحث والتفتيش.
قبل مدة مرّ على ذاكرتي حدث العدوان الثلاثي الفرنسي البريطاني الصهيوني على مصر عام 1956 على خلفية تأميم قناة السويس، فراجعت الكثير من وثائق تلك الفترة بغية التعرف على أدوات التلقي عند شعوبنا في الأزمات، فوجدت ثلاثة ظواهر ميّزت تلك المرحلة، أولها الخطابات الحماسية التي كان جمال عبد الناصر يلقيها على الرأي العام ومعه حادلة طويلة وعريضة من الإعلاميين والمفكرين والمثقفين وقد اصطف الجميع على التمجيد بالروح القومية للشعب العربي والمصري التي ستقهر هذا العدوان، والثانية جموع الشعب المصري وعلى رأسهم إسلامييها التي كانت تتصدى بأسلحة عزلاء في بور سعيد والسويس والإسماعيلية للقصف الثلاثي، والثالثة هو الذئب الأمريكي الذي جاء بهدف إخماد وتيرة الصراع لكي يقسم تركة الشعب المصري، فلإسرائيل حصة البقاء، وللإمريكان حصة النفوذ والسيطرة على هذه المنطقة بعد أن بدأوا عملية طرد النفوذ الفرنسي والبريطاني فيها، ولجمال عبد الناصر حصة المزيد من الخطب الحماسية التي تتحدث عن النصر العروبي.
وما من شك أن الخطوط في هذا المثال متباينة الاتجاهات، ولكن كل واحد منها كان يعبّر عن ظاهرة، فالشعوب تريد الخلاص ولو بالانتحار كما كان يفعل شباب الإخوان المسلمين وغيرهم في وقتها، غير أن الحاكم يخدعها ويخدّرها بالخطابات الرنانة والشعارات البليغة، لتدور من بعده حادلة الزمّارين والطبالين الذين يمسكون برقبة وعي الشعوب لأنهم يمسكون بوسائل الإعلام، فالمهم أن يعتلي الحاكم منصة الأبطال ويلعق هؤلاء زبده حينما يتشدق، وليس مهماً لديه كيف يعتليها؟ وأي ثمن ستتحمل أمته من جراء هذا الأمر؟ والنتيجة تكون دوماً للذئاب التي ترضى بأن تلقي بعض فتات الفريسة لكي تلعب الدور المساعد لمورفين الشعوب.
وبالرغم من أننا لا يمكننا أن نفرق بين هذا الأمر وبين النتيجة المأساوية التي وقعت في نكسة حزيران عام 1967، وما فيها من إهانة أممية كبرى، إلا أن الشعوب تمزّقت ما بين حلين أولهما طبّل لجمال عبد الناصر لأنه قدّم استقالته في حشد جماهيري بعد خطبة رنانة مملوءة بمصطلحات القومية والوطنية، وانتهت الفضيحة القومية بتراجع جمال عبد الناصر عن استقالته، ونسي جمهوره القومي الجرح الأعمق الذي تسبب به ومجموعة زعماء العرب في تاريخ الأمة، والآخر انكفأ يلعق جراح الذل ويجلس ليبكي القدس السليبة، فكان قراره هو ما انتج قرارات الهجرة والتكفير تعبيراً عن مرارة هذا الإذلال، وهو قرار تم بإرادة منتفضة ولكن دونما عقل بنتائج ذلك على الهدف المعلن لدى نفس هؤلاء، حتى تبخرت وسطية الإخوان المسلمين وسط تشدد جماعات التكفير، ودخلت الأمة في موجة من جرعات التخدير والتنويم والسبات، فهي لم تعد ترى الهدف والمطلوب، وفي أحسن أحوالها قنعت باهداف هي إلى الوهم المقنّع أقرب من أي شيء، فلقد حدثوها عن التنمية والرفاه والرقي، فتنازلت عن تلك الأهداف لصالح تنمية السلع الإستهلاكية ورفاهية القنوات الفضائية ورقي أجهزة الميكرويف والتلفزيون وأدوات الطبخ وألعاب الكومبيوتر والبلاي ستيشن، رقي خفف علينا بعضاً من التعب، ولكنه سلبنا ما هو أهم بكثير من هذا التعب، لأننا بتنا أكثر تخديراً، وما عاد لأحد أن يفكر بكيفية الخروج من عنق الزجاجة الذي حشرنا فيه.
ولكنها ما أن حصلت على مسمّى ذلك حتى نشأ لدينا جيل جديد ينذر بمأساة كبرى، فلا هو بالذي يقبل على التعليم والتفكير فضلاً عن الإبداع، ولا هو بالذي يتمتع بالمناهج التربوية التي تنمّي عنده حس المسؤولية، فثقافته غدت تزرّق إليه عبر جيش من كتاب السيناريو المجهولين وهم يقفون وراء المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية ومسابقات المعلومات التي لا تغني أحداً، جيل جلّ معلوماته مختصرة إن طلبها ودونما تركيز بل في الكثير من الأحيان لا يعرف مصدر هذه المعلومة فالأنترنيت والصحف وشبكات التواصل الاجتماعي تعطيه المقالات القصيرة التي تنمّي عنده الجهل المركب، ولا تغريه بوسائل الوعي الجادة، ولو قدّر لأي واحد منّا أن يتأمل منظر بيته، فسيجد أن الروابط الاجتماعية في داخل الأسرة تتفكك بشكل سريع جداً، حتى أن غالبية العوائل والأسر يمكن أن يقال عنها بأنها مصابة بالخرس المنزلي، فإن جلسوا على التلفزيون لمشاهدة فيلم أو مسلسل ما فالكل يبقى منشداً إليه ولا يسمح لأحد أن يتكلم، وإن فرغوا منه تفرغ كل واحد منهم إلى مقتنياته الخاصة فذاك على الفيس بوك، وذاك على ألعاب الكومبيوتر، وهذا على العاب الآيباد، والرابع مشغول بمسجات التلفون، والخامس ينظر إلى هذا وإلى ذاك فلا يجد أحداً يتكلم معه فينقلب إلى حالة الإكتئاب، ومن كل ذلك ينتج تنامي حالة التوتر في داخل البيت الواحد، ولك ان تتخيل ما يمكن ان تؤول إليه الأمور فالجيل الجديد ينشأ ولكنه ينسلخ بالتدريج من شعور الإنتماء إلى الأسرة، وإذا ما أنتجنا الجيل الذي لا يعرف الإنتماء إلى الأسرة، فكيف سينتمي هذا إلى الأمة؟ وبالتالي أين المطلوب الذي يجب أن نفكر فيه إن فقدنا الأمة وباتت مجرد ركام بشري يأكل ويشرب؟!
ما أريد قوله من بعد كل ذلك إن أي عملية إنقاذ للواقع المزري الذي ننحدر إليه، يحتاج إلى رغبة في الخلاص، وهذه الرغبة لن تتكون ما لم يع الإنسان أنه يعيش في مستنقع حضاري آسن للغاية، ولكن حصول هذه الرغبة من دون أن تنشأ الإرادة اللازمة للتمرد على هذا الواقع، سيعود علينا بجرعات مشددة من اليأس والإحباط والملل وعدم الثقة بالنفس، ولكن نشوء الإرادة من دون تحديد الهدف المطلوب منا، سيحوّل هذه الإرادة إلى مجرد عملية لتنفيس الطاقة المختزنة على شاكلة راقصي البوب، وتحديد الهدف من دون خريطة الطريق لن تجعلنا نحظى بما نريد، فالمثال الياباني المتقدم لم يقفل المصنع ليبكي سوء الحظ أو يندب سوء الطالع، بل أقفل المصنع لكي يتأمل عناصر الخلل واستحضر عناصر القوة حدد ما يريد بالضبط فرسم خارطة الطريق وانطلق لينتج واحدة من مفاخر التكنلوجيا المعاصرة.
إنه لم يكذب على نفسه، ولم يلبس قناعاً للهروب من مشكلته، ولم يتحدث بمنطق الفرد الحاكم على كل شيء، ولم ير كل الأمور من منظار أنانيته، بل نظر إلى المصنع بكامل أجزائه دون فرق بين العامل البسيط وبين غيره، بل نظر إلى البشر والحجر والعدة والعدد واعتبر أن المسيرة المطلوبة تحتاج إلى نهضة الجميع وحراك الجميع، شريطة أن يحدد الجميع المطلوب منهم.
ولا أدري هل هي الصدفة؟ التي جعلت هذا المقال يتزامن مع تكرار نفس المشهد المألوف بين الحاكم المخادع والشعب المخدوع، فالحاكم في أمتي في خطاب له راح يسبغ على نفسه أمام الناس شعارات العظمة وعنتريات البطولة وكيف أنه سيصنع لهم من الورق نمراً، ومن السراب ماءاً، ومن الجفاف سيلاً، ومن الخراب إعماراً، ومن الظلام ضوءاً، والمحكوم الذي ظل ينظر كالأبله إلى الحاكم وينتظر منه أن يريه نمر الورق هذا، مع أن النمر الحقيقي يُرفس تحت أقدام المحكومين المنشغلين بهتافات: بالروح بالدم نفديك يا !!
وظل يمجد الحاكم على قدرته لتحويل السراب ماءاً!! بالرغم من أنه حوّل ماءهم إلى سراب وأرضهم إلى يباب!!
وظل يمتدح القدرة العجيبة التي يتمتع بها الحاكم على تحويل الجفاف إلى سيل!! مع أنه سهر على أن تنضب مياههم، وتجف أنهرهم، وتتيبس عروقهم!!
أضحكتني هذه الصدفة من شدة الحنق، فالحاكم قال لهم: ارفع رؤوسكم وافتخروا، فارتفعت أعناق مغفلة ترمق وعود الحكّام لتضع على جيدها قلائد الغباء، وتضع على عيونها غطاء الاستحمار، وتغلف وعيها بنقاب الحمق ولما لم تجد شيئاً أنزلت عيونها على الأرض وانحنت عليها فجلس الحاكم على ظهورهم، ففرح المحكومين لأن من كانوا ينتظرونه قد نزل عليهم فجللهم وكساهم بأردية الإستغباء والخنوع، وعندئذ أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح
وللحديث تتمة تأتي إن شاء الله لاحقاً.
http://www.sh-alsagheer.com/?show=news&action=article&id=1023
https://telegram.me/buratha