حسن الهاشمي
الآباء ثلاثة أب أولدك وأب زوجك وأب علمك، هذا الحديث الشريف يحث على إبداء الاحترام وإسداء المعروف إزاء من كان سببا في وجود الإنسان في الحياة وتربيته وتعليمه وتأديبه وإدخاله في خانة الاستقرار والهدوء النفسي، فالذي يغدق عليك الأدب والعلم والمعرفة أهم حتى من الذي يكون سببا في حياتك، لأن الوجود في الحياة ليس سببا بحد ذاته بقدر ما يترتب عليه من آثار العبادة والمعرفة والتكامل. لهذا فإن الأساتذة المخلصين، المتحلين بالإيمان والخلق الكريم، لهم مكانة سامية، وفضل كبير على المجتمع، بما يسدون إليه من جهود مشكورة في تربية أبنائهم، وتثقيفهم بالعلوم والآداب، فهم رواد الثقافة، ودعاة العلم، وبناة الحضارة، وموجهو الجيل الجديد.قديما قالت حكماء الهند: أربعة لا تشبع من أربعة: عاقل من أدب، وعالم من كتب، وأصيل من نسب، وجاهل من لعب.ولا يزال الإنسان يرفل بالسعادة إذا ما اتحد فيه أبوة النسب والعلم، أما إذا ما افترقا فإن أبوة العلم مقدمة على أبوة النسب وكيف لا تكون كذلك وهي مستلهمة من الكتب والمعرفة ومصقولة بالأدب والسلوك الحسن والكدح إلى الله تعالى بصفحة بيضاء بينما أبوة النسب الجاهلة وجودها كعدمها فهي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة ولا فائدة منها ترتجى، ومن هذا المنطلق يتجلى لنا قول الرسول الأعظم يا علي: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، والأبوة هنا ليست نسبية بل إنها أعظم وأهم إنها أبوة تعليمية إنقاذية للأمة من متاهات الجهالة إلى أنوار الهداية والاستقامة. لذلك كان للأساتذة على طلابهم حقوقا جديرة بالرعاية والاهتمام، وأول حقوقهم على الطلاب، أن يوقروهم ويحترموهم احترام الآباء، مكافأة لهم على تأديبهم، وتنويرهم بالعلم، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح، وتقدير جهودهم ومكافأتهم عليها بالشكر الجزيل، وجميل الحفاوة والتكريم، وإتباع نصائحهم العلمية، كاستيعاب الدروس وإنجاز الواجبات المدرسية، والتسامح والإغضاء عما يبدر منهم من صرامة أو غلظة تأديبية، تهدف إلى تثقيف الطالب وتهذيب أخلاقه، وكما قيل لأحد الحكماء: انك تعظّم معلمك أكثر من تعظيمك لأبيك! فقال: لأن أبي سبب حياتي الفانية، ومؤدبي سبب الحياة الباقية.أما طلاب العلم فإن فضلهم وكرامتهم، باجتهادهم في تحصيل العلم، وحفظ تراثه، ونقله للأجيال الصاعدة، ليبقى الرصيد العلمي زاخراً نامياً مدى القرون والأجيال، من أجل ذلك، يجدر بأولياء الطلاب والمعنيون بتربيتهم وتعليمهم، أن يختاروا لهم أساتذة أكفاء، متحلين بالإيمان وحسن الخلق، ليكونوا قدوة صالحة ونموذجاً حسناً لتلامذتهم، وأن يستشعروا من أساتذتهم اللطف والإشفاق، فيعاملون معاملة الأبناء، ونوهت أحاديث أهل البيت عليهم السلام بفضل طلاب العلم، وشرف أقدارهم وجزيل أجرهم، فعن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «طالب العلم بين الجهال كالحي بين الأموات»، وغيرها الكثير من النصوص الحاثة على طلب العلم النافع.ومن الواضح أن تلك الخصائص الرفيعة، والمزايا المشرفة، لا ينالها إلا الأساتذة المتعقلون وطلاب العلم المخلصون، المتذرعون بطلبه إلى تزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم، وكسب معرفة اللّه عز وجل وشرف طاعته ورضاه إضافة إلى كسب العلوم المادية النافعة، فإذا ما تجردوا من تلك الخصائص والغايات، حرموا تلك المآثر الخالدة، ولم يجنوا إلا المآرب المادية الزائلة.وأصدق شاهد على ذلك، الأمم المتحضرة اليوم، فإنها رغم سبقها وتفوقها في ميادين العلم والاكتشاف، تعيش حياة مزرية من تفسخ الأخلاق، وتسيب القيم الروحية، وطغيان الشرور فيها لنزعتها المادية، وتجردها من الدين والأخلاق، وغدت من جراء ذلك تتبارى بأفتك الأسلحة للقضاء على خصومها ومنافسيها، مما صيّر العالم بركاناً ينذر البشرية بالدمار والهلاك، والمطلوب من جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا في الدول الإسلامية اقتناء ما هو مفيد من العلم والمعرفة وروح الابتكار والصبر على مشاكل العمل والإتقان فيه من الدول الغربية وترك كل ما هو شأنه من ابتذال وتفسخ وميول شيطانية لا تجلب على المرء سوى الخيبة والخسران، فإن تراثنا الإسلامي مليء بالمناقبيات التي لو تبنتها البشرية لحصلت على حياة حقيقية تمتد إلى آفاق ما بعد الحياة الفانية، ولا يحصل ذلك إلا بتظافر الجهود لخلق شرائح من الأساتذة والطلاب تعمل على تكريس العلم والقيم والأخلاق في المجتمع الإنساني.وفي هذا المضمار قال لقمان الحكيم لابنه: يا بني من لا يملك لسانه يندم، ومن يكثر المراء يشتم، ومن يداخل السوء يتهم، ومن يصاحب السوء لا يسلم، ومن يجالس العلماء يغنم، بماذا يغنم، إنه يغنم الآداب والأخلاق والأحكام الشرعية وأساليب الكلام المؤدبة وأخيرا وليس آخرا النجاة في الدنيا والآخرة، وبهذه المجالسة يحق للإنسان أن يفتخر ويتباهي لأنها بحق الغنيمة العظمى والاستحقاق الأكبر والنجاة من أهوال الدنيا ومغرياتها الفانية.والكثير من الناس يفتخر على الآخرين بالملك أو القدرة أو المال أو الفصاحة أو النسب أو الجمال، فالافتخار بهذه الأمور كلها فانية إلا العلم والمعرفة فإنها خالدة بخلود تبعاتها، ويمكن أن يقال لمن يفتخر بالملك بأن (الملك لله الواحد القهار) ولمن يفتخر بالقدرة (عليها ملائكة غلاظ شداد) ولمن يفتخر بالمال (يوم لا ينفع مال ولا بنون) ولمن يفتخر بالفصاحة (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) ولمن يفتخر بالنسب( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ولمن يفتخر بالجمال(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه)... ويبقى الافتخار بالعلم والمعرفة هو الذي يمكث ويستقر ويتجذر شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولا يتأتى ذلك اعتباطا وإنما يحصل عليه العلماء العاملون نظرا لخشيتهم لله الواحد القهار ولما يعبدون عن دراية وبرهان وليس لقلقة لسان(إنما يخشى الله من عباده العلماء).
https://telegram.me/buratha