بقلم :رياض راضي ابو رغيف / باحث اسلامي وكاتب بالشان العراقي
في تاريخنا الاسلامي الممتد الى اكثر من خمسة عشر قرنا احداث متشابكة و عقد كثيرة ومعاضل غير هينة حاول الكثير من العلماء والباحثين المختصين تفكيك طلاسمها وتحليل وقائعها وجلاء رموزها ولقد ساهمت الكتابات المتعددة للاحداث التاريخية الواقعة في صدر الاسلام سواءا ماكتب منها بحبر الحكام والسلطة او ماحرر باقلام الثائرين والمعارضين والناقمين الى تشويش الرؤى وخلط الالوان وضبابية المشاهد وبلاشك لم يكن الصراع السياسي والتصارع السلطوي سواءا ماكان منه صانعا للحدث او مغموسا في خضمه او ما استتبعه بريئا من تهمة الانحياز والانقياد الى حبال التأرجح بين الواقعة التاريخية كواقعة بذاتها (مجردة كما هي ) وبين اعادة صناعتها وفق رؤى المصالح والتوجهات السياسية لتنتج كتابة تاريخية مهتزة وغير رصينة .والخطورة ليس في اهتزاز صورة كتابة الحدث التاريخي بناءا على اعتبارات المصلحة السلطوية فحسب انما كذلك في انجرار العقائد باتجاهها وتاصيل وتاسيس العقيدة على اساسها فيصبح النص التاريخي المتفسخ مدركا من مدارك العقيدة ومرجعا من مراجع الايمان .هذا التعامل مع السرود التاريخية وكانها مسلمات او نصوص مقدسة لايجوز الاجتهاد في مقابلها انتج نظريات عقائدية هي من اخطر المناهج الفكرية تاثيرا في الواقع الاجتماعي الاسلامي وبالتالي صنع عقيدتين وفكرين ومنهجين يكاد يكون خلاف الواقعة التاريخية (العقائدية ) اشد صراعا من الخلاف العقائدي (كعقيدة ) بمفهومه الاجمالي .في سنين مضت وكنت حينها دارسا للثقافة الاسلامية المعمقة واضبت الحضور الى مجالس العلماء والمراجع (قدس الله سر الماضين وحفظ الله لنا الباقين) وكنت اهوى النظر والتدقيق في الحوادث التاريخية التي رسمت بعض المسارات الملتوية للفكر العقائدي الذي ندرس بعضا منه اليوم وكنت اتقصد ان اطرح الرواية التاريخية على سادتي ومشايخي ممن له باع في التدقيق والتحقيق وله اراء حاكمة ورصينة لا يتجاهلها اهل البحث والدراسة وكنت كثير التفاجؤ والاستغراب حين اكتشف ان الجل الاعظم من الروايات التاريخية التي كنت اعدها مقدسة لا يأتيها الباطل ابدا ولا اسمح لنفسي ان اناقشها مع ذاتي فضلا عن الاخرين كنت اكتشف تدريجيا ان العلماء من اهل الدقة والتحقيق والرأي والنظر لا يسلم بصحة كل اركانها بل ويفند معظم تفاصيلها .هذا الهدم وذلك التفنيد كان في حقيقته يدمر جزءا عظيما مما كنت اعتقد مخطئا انه جزء من عقيدتي وبالتأكيد لم اكن لاستسلم بسهولة الى ما استمع له من اراء علمية ومناقشات بحثية بل كنت اجادل واحاول وفقا لإمكانياتي وقدراتي المحدودة ان استتبع ما اظنه يوصلني الى مرفأ الاطمئنان فياتيني جواب العلماء كالسيف القاطع ذلك هو المنهج العلمي للنحقيق والتدقيق في حكمه على الرواية التاريخية سواءا وافقت ما ظننت ام لو توافق .ذلك كله جعلني اكتشف امرا غاية في الاهمية والخطورة وهو ان هناك فرقا كبيرا بين الثقافة العقائدية المبتنية على اساسات الرؤية للحوادث التاريخية بقضها وقضيضها وبين الايمان العقائدي المبتني على مدارك التشريعات الاسلامية الاصيلة والرصينة .كان العلماء العاملون في حقل الدراسة العقائدية يستنيرون بالنهج القراني والروائي الشريف الصحيح وكنا نحن نتيه في مطبات الرواية التاريخية المنقولة بضبابيتها فاسسنا لثقافة عقائدية اكاد اسميها ثقافة المنابر او الثقافة العقائدية الشعبية .وكما هو معلوم لاهل الاحتصاص فالعقيدة لايمكن ان تسند قوتها او تبني اركانها الا بالدليل الشرعي الصحيح المحكوم بوثاقة صدوره وارتفاع الشبهة الموضوعية والحكمية عنه وهو امر متوفر وواضح في المنهج الفكري الاسلامي المبتني على القواعد الاصولية ومفقود في الثقافة الشعبية الشرعية (ان صح لنا توصيفها بهذا الوصف ) .تلك الثقافة الشرعية الشعبية المنفلته عن عقال منهجية البحث العلمي والمرتكزة على الموروث التاريخي المتارجح في ميزان الدقية الفكرية والسندية اوجدت لها منابت ومحاضن نشأت فيها وترعرت وسقيت بتراكمات العقد المستولدة من رحم احكام كتاب الواقعة التاريخية وابتعدت بمسافة بعيدة جدا عن الفكر الاسلامي المحمدي المتمثل بالسنة النبوية المطهرة والاحاديث الصحيحة لائمة الهدى (ع ) ولست ادعي ان تاريخ نشأة هذا الخط وبدايات شروعه في التمدد ابتدأت قبل عشرات السنين بل لا يمكن لنا ان ننكر ان تاريخه ممتد الى قرون مضت تحكمت قي سعته وانتشاره عوامل معقدة اخرى ليست بمنفصلة عن حركة التاريخ وصانعيه . فالمنهج التكفيري مثلا لايمكن باي حال من الاحوال ان نتخيل ان موازينه المتشددة واحكامه العنيفة واثاره البالغة وسعة اطلاقه وعرض مساحات تطبيقه له اصل واضح في المنهج القراني وفي السيرة النبوية المطهرة بل اكاد اجزم ان المقيدات الحاكمة له والموانع المعترضة امكانية اتساع اطلاقه شديدة جدا ولا تجد له اثرا في النصوص المعصومة الا بشرائط سقوفها عالية مرتفعة ولكنه نتيجة لقراءات الوقائع التاريخية المخطوئة المتلازمة مع المصالح المشبوهة انتج فكرا ومنهجا تكفيريا خطيرا عرض ولازال يعرض الاسلام والمسلمين للخطر .فالحاكم كان محتاجا الى توطيد حكمه وسطوته ولانه يدرك ان احقيته في كرسي السلطنة والحكم محل شك وتشكيك وذلك كله مدار ثورة الثائرين الناقمين على حكمه وفكرة التكفير خير حجة لبسط سيفه في رقاب معارضية وهيمنته على مقدرات الامة فكان اطلاق اليد فيها وتوسيع شموليتها منقذا لاماله واطماعه فصارت الحوادث المنقولة بشانها دليلا يستدل به من ينظر الى كل رجال الزمن الماضي نظرة التقديس والعصمة لتكون منهجا وفكرا وعقيدة ليست صامدة امام التاصيل العقائدي الرصين لكنها متجذرة في نفوس الواهمين انها شرعة من شرع الله وسنة من سنن نبيه ( ص ) .ثم ان الانحرافات والانقسامات الفكرية بين اصحاب المنبع العقائدي الواحد و التي حدثت منذ القرن الثاني الهجري شكل رؤى وقراءات عقائدية مختلفة ومتنافرة ولان كل اولئك المنقسمون ينهلون من ذات المرجع الاصيل فقد اصبح التفريق بين عديد المجتهدين (بين الفرق ) امام النص الواحد من الصعوبة الا على اهل الاختصاص والدراية والعلم وتداخلت العقائد عند غير اهل الشان والمعرفة فصار التخبط العقدي ميزة الثقافة الاسلامية الشعبية فتجد تفسيرات النص المعصومي الواحد له قراءات مختلفة في المشترك الاسمي المذهبي متعدد الفرق حينها انقلبت بعض العادات والاعراف والمناسبات واجبا دينيا وشرعيا والمناقش لاصولها خارجا عن الملة والدين والمذهب .اما الصراع القديم بين المدرستين واقصد مدرسة التاصيل العقائدي العلمي وبين مدرسة الثقافة الدينية الشعبية فهو صراع مرير ومتعب فالمدرسة الاولى التي يقودها العلماء والمفكرين واهل الدراسة والبحث والتحقيق تحاول ان تعيد المدرسة الثانية التي يقودها الجهال وانصاف العلماء واهل المصالح مهما تلونت وتعددت اغراضهم اقول يحاول العلماء ان يعيدوا العربة الى سكة المنهج الاسلامي الواضح البعيد عن الفضول والزيادات والحواشي وتاريخنا مليء باسماء العلماء والمصلحين والمجددين الذين سعوا بكل قوة وارادة وتصميم الى نبذ وهدم كل ماليس له صلة بالنص المعصومي وتفنيد القراءات التاريخية المهزوزة التي مزقت كيان الامة واضعفتها وستؤدي بها الى الهاوية حتما .ان نشؤ التيارات المتشددة كان نتيجة حتمية لغرق الثقافة الاسلامية الشعبية في توهمات النص التاريخي اللامنضبط وابتعادها عن المنهجية البحثية التي يدعو اليها علماء الامة ومفكريها.وهم يصرون على ان قدم النص وقدم زمانيته دليل صحته مبررين ذلك وجوده في تراث الامة واهمين انفسهم بمعصومية موجديه واقرار ناقليه وكل ذلك من شطط القول لان جميع النصوص الموروثة هي خاضعة للجرح والتعديل والتحقيق والتدقيق وان الظروف الموضوعية لكتابة الاحداث التاريخية هي الحاكمة على طريقة روايته ونقله ومتى ما انتبهت الامة الى هذه الحقيقة وعممها علمائها على كل النصوص التاريخية مثار الخلاف والاختلاف ضاقت حلقة خنق التشدد وازدادت فرصة القضاء عليه وامنت امة الاسلام من اخطار التناحر والتحارب والتكفير والاقتتال فمدرسة التشدد تنتشر بين اوساط الجهلة والاميين ويغذيها الموتورون من انصاف العلماء وشذاذ الافاق وهي بالتالي طارد لا يستهان به لشباب الامة الواعي الذين يستهدفهم الاسلام بفكره النير واخلاقه السمحة التي شوهها الحمقى بفتنهم القبيحة .
رياض راضي ابو رغيف
https://telegram.me/buratha