منذ عام 2003 يطيح رجب طيب أردوغان بخصومه من العسكر والعلمانيين. مدّه الجارف طبع الحياة السياسية والاجتماعية التركية منذ عشر سنوات. اليوم خصم «الوالي العثماني» رجل من طينته. الداعية فتح الله غولن فكّ الارتباط مع «الأردوغانية». خلع قفازاته ليُظهر أنّ «محارب الفساد الأول» وصاحب شعار الشفافية، وحزبه، غريقان في موجة فساد لم تكشف حدودها بعد
منذ أشهر، يجهد رجب طيب أردوغان في تبرير سياسات حكومته. لم يعد الرجل النموذج صاحب النظام النموذج، لا في الداخل ولا مع الخارج. منذ أفول ربيع الإخوان في مصر وتونس وارتداد «رياح أنقرة» عن أسوار دمشق… بات أردوغان يمتهن الدفاع والشتم. ذهبت أيام كان فيها يعظ وينصح. بات «القائد الفاتح» منكفئاً على نفسه. يراقب النسخة «الأردوغانية» لمشروع العدالة والتنمية تتهاوى. رفاقه يهمّون منذ مدة للانقضاض عليه. يريدون تغيير القبطان حماية للسفينة من الغرق. (الرئيس التركي) عبد الله غول ومجموعته أحد هؤلاء، ومعهم أب الإسلام الاجتماعي التركي، الداعية فتح الله غولن.
حديقة «جيزي» كانت بروفة صغيرة. «مسألة بضع شجرات» تحولّت إلى أيام من التظاهرات والاضرابات: المضربون طالبوا بالحريات الاجتماعية. شربوا الخمرة في الأماكن العامة. اعترضوا على تسمية «سليم الأول» على الجسر المعلّق الثالث، الذي سيربط الشطر الأوروبي لمدينة إسطنبول بشطرها الأسيوي.
نجح «الدكتاتور»، كما أطلق عليه، في خنق المعارضة. أسكت كتّاب صحف. كان الأمن والقضاء بجعبته.
الرجل لم يهادن. عمل على نحو أيديولوجي. بدا كأنه يريد أن يواصل حربه، كما اقتبس من بيت شعري عام 1998: مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا والمصلون جنودنا. هذا الجيش المقدس يحرس ديننا. لم يعلم أنّ عراب هذا «الجيش المقدس» لم يعد يحميه.
لم يكن يقتصر الخلاف على الملفات الداخلية. أدت السياسة الخارجية الفاشلة لأردوغان و«منظره» أحمد داوود أوغلو دوراً أساسياً. منذ سفينة مرمرة، وحتى الدخول التركي الحرب السورية. البارز فيه هذه المرة أنّ غولن، صاحب الوجود القوي في المجتمعات التركية الدنيا والطبقات الوسطى والأوساط الدينية ورجال الأعمال، دخل بنفسه على الخط عبر شبكته التعليمية والاعلامية، و«جيش من الموظفين» في الإدارات العامة والأمن.
لطالما شكّلت «حركة غولن» ذراعاً غير رسمية لحزب العدالة والتنمية.
لم يكن التباين وليد اللحظة. منذ عام 2010، طفت على السطح بوادر خلاف بين «المرشد» وتلميذه.
«الداعية»، مثلاً، أدان قرار طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة على خلفية الاعتداء على سفينة «مرمرة» المتجهة إلى غزة عام 2010. صرّح لصحيفة «وال ستريت جورنال» الأميركية بأنّ الجانب التركي هو المخطئ لأن السفينة لم تحصل على إذن إسرائيلي لدخول غزة، واصفاً ذلك بالتعدّي على الشرعية.
أردوغان لم يقطع مع غولن، قال أمام مهرجان «أولمبياد اللغة التركية»، في بادرة حسن نية: «إننا نرغب في رؤية من يحترقون حسرة وحنيناً إلى الوطن بيننا (…) لينتهي هذا الفراق والغربة الحزينة، لنهتف إذن بصوت واحد كفى هذا الفراق»، موجّهاً بذلك دعوة إلى غولن المقيم في الولايات المتحدة الأميركية ليعود إلى تركيا.
ردّ غولن: «إنّ العبد الفقير (يقصد نفسه) هو الذي يحدد متى سيعود إلى تركيا».كذلك جاء قرار الحكومة التركية حول التعليم، ما أدى إلى انهاء استقلالية المدارس الدينية (الدرسخانة) التي كانت تمثل بالنسبة لجماعة غولن رئة للنفوذ. ردّ الأخير، في خطاب وجهه لأعضاء جماعته: «عندما تكونون ضد فرعون وضد قارون فأنتم في الطريق الصحيح».
لم تستقم الأمور إذاً. تعيين حقان فيدان، رئيساً لجهاز الاستخبارات، الذي يوصف بأنّه رجل الظل وأكثر المقربين إلى أردوغان، أثار حفيظة غولن الذي رفض، ووظف كل قوته للإطاحة به، لأن فيدان وقف أمام محاولات جماعة غولن التغلغل أكثر فأكثر في جهاز المخابرات.
هذه المرة ردّ أردوغان بإبعاد العديد من أنصار «حركة غولن» من مناصبهم في جهازي الشرطة والقضاء.
وبدأ التوتر يزداد، بعدما أشاعت أوساط رئيس الوزراء التركي أنّ احتجاجات «جيزي» في اسطنبول ازدادت حدتها بمشاركة جماعة غولن.
في السابع عشر من الشهر الحالي، كرّت السبحة: فضيحة فساد تهزّ تركيا. اتهامات من كل حدب وصوب… رفاق لأردوغان سقطوا الواحد تلوَ الآخر. ومن المتهمين مدير عام مصرف «خلق» الحكومي سليمان أصلان، الذي ضبطت قوات الشرطة 4.5 ملايين دولار من النقود في منزله.
52 من المسؤولين ورجال الأعمال المعروفين بعلاقاتهم الوثيقة بحزب العدالة والتنمية اعتُقلوا بتهم مختلفة، بينها الاحتيال في تقديم مناقصات للفوز بمقاولات والرشوة والمتاجرة غير المشروعة بالذهب.
دفع ذلك أردوغان لعدم تجاهل غولن، في اجتماع الكوادر التنظيمية لحزب العدالة والتنمية أول من أمس. حمّله من دون أن يسميه «مسؤولية المؤامرة»: «هذا الرجل لا علاقة له بالدين والإسلام والله ومحمد».
ورغم التعديل الوزاري الواسع الذي أجراه، لا يزال أردوغان في موقف ضعيف بسبب فضيحة الفساد غير المسبوقة التي تهز البلاد، والتي يبدو أنها باتت تهدد أسرته مباشرة. صحيفة «ملييت» ذكرت أمس أنّ رئيس الحكومة أعرب عن قلقه للمقربين منه، قائلاً: «الهدف الرئيسي لهذه العملية هو أنا».
وتوقعت صحيفة «جمهورييت» المعارضة «زلزالاً» في قمة الدولة، مشيرة الى تورط منظمة غير حكومية، هي المؤسسة التركية لخدمة الشباب والتربية (تورغيف)، التي يرأسها بلال، نجل أردوغان البكر، في هذه الفضيحة.
وفي هذا المناخ، يحتدم الصراع، بقول أحد المدّعين المكلفين في التحقيق، معمر اكاش، إنّ «الشرطة رفضت تنفيذ اوامر الاعتقال التي صدرت ضد نحو 30 مشتبهاً بهم إضافيين، وخصوصاً من نواب حزب العدالة والتنمية». وقال، في بيان غير مسبوق، «ليعلم كل زملائي وايضاً الجمهور بأنني منعت كمدع من فتح تحقيق»، مندداً بـ«ضغوط» من الشرطة وقيادتها.
بعد أشهر من التظاهرات غير المسبوقة التي تحدت سلطته في حزيران الماضي، يجد أردوغان ــ الذي يحكم بلا شريك منذ 11 عاماً ــ نفسه أمام عاصفة سياسية عنيفة.
وإذا كان أردوغان نجح في التعامل مع احتجاجات «جيزي»، يجد نفسه في مواجهة مع خصم يتمتع بقدر عال من التنظيم، وبأدوات تشبه ما يملك.
تنتظر البلاد الانتخابات البلدية في شهر آذار 2014 والبرلمانية في العام ذاته.ضربة غولن القوية يبدو أنها ستؤثر بشدة على حظوظ أردوغان صاحب شعار «الشفافية ومكافحة الفساد» في حملته الانتخابية.
أول من أمس، خرج الآلاف في مدن تركية عدة للتنديد بالفساد والمطالبة باستقالة أردوغان وحكومته. كذلك أطلقت دعوات جديدة إلى التظاهر مساء اليوم في ساحة تقسيم في اسطنبول.
تهزّ هذه الاضطرابات السياسية الثقة في الأسواق، إذ واصلت الليرة التركية هبوطها امام الدولار، كما تراجع المؤشر الرئيسي لبورصة اسطنبول بنسبة 2.33% أمس، بعد تراجعه بنسبة 4.2%، أول من أمس.
لم يتمظهر بعد الشكل النهائي للصراع الدائر في تركيا. بعض أوجهه لا زالت خفية. أسئلة عديد تطرح حول دور فتح الله غولن، وحراكه. هل يأتي بضوء أخضر أميركي أو على الأقل بلا ممانعة من العم سام؟ بل يذهب البعض للقول بأن انكسار أردوغان (أو محاولة كسره) بات ضرورة داخلية تركية لحفظ حزب العدالة والتنمية، وضرورة إقليمية كجزء من عملية ازالة العوائق المحتلة أمام تسوية إقليمية مرتقبة تشمل مجموعة من الملفات الأزمات أبرزها سوريا وإيران.
أمس، وعد الرئيس عبدالله غول «بعدم اخفاء حقائق الفساد في المراتب العليا للسلطة، (…). والبلد الذي أجريت فيه كل الاصلاحات (الماضية) لن يخفى الفساد ولن يسكت عن الأخطاء. القضاء سيصدر قراره، دون أن يغفل شيئاً»، في إشارة إلى تعمق الانقسام في الحزب الحاكم.
داعية بحجم دولة
كتفاً بكتف، خاض الداعية الاسلامي فتح الله غولن إلى جانب رجب طيب أردوغان، خلال السنوات العشر الأخيرة، معركة ضد نفوذ الجيش والنخب العلمانية. تعاون أسفر عن نقلة نوعية في المجتمع التركي لصالح الاسلاميين. «مساعدة» غولن ليست هامشية. «الأخطبوط» تدير جماعته (المعروفة بـ«جماعة غولن») شبكة ضخمة من المدارس والشركات ووسائل الإعلام في خمس قارات. في تركيا، لدى غولن ما يعدّ دولة داخل الدولة. وجود قوي داخل جهازي الشرطة والقضاء، والإدارات العامة. قنوات تلفزيونية عديدة، منها الاخباري والثقافي. وصحيفة مثل صحيفة «زمان» اليومية الواسعة الانتشار. موقع «الخطيب المفوه» الرسمي على الانترنت بـ32 لغة.
بدأ عمله الدعوي في ازمير في مدرسة تحفيظ قرآن تابعة لأحد المساجد، ثم عمل واعظاً متجولاً، وركّز على طلبة المدارس، إذ عمل الكثير منهم في حركته بعد التخرج.
ولد غولن في 11 تشرين الثاني عام 1941، في قرية كوروجك في محافظة أرضروم شمال هضبة الأناضول. وبدأ نشاطه الدعوي في مدن عدة غرب تركيا بداية ستينيات القرن الماضي.
صعوده السريع أثار قلق أنقرة عام 1999، عقب انتقاده الحكومة، ورغم اعتذاره عنها فإن النائب العام التركي قرر فتح تحقيق معه. تدخل الرئيس بولند أجاويد، لحل الأزمة، بعدما ظهر فى فيديو يتحدّث فيه لعدد من أنصاره، «إنهم سيتحركون ببطء لتغيير المجتمع والنظام التركي تدريجياً من نظام علماني إلى نظام إسلامي».
ثمّ قرّر الاختفاء عن الأنظار، والانتقال إلى الولايات المتحدة، حيث يعيش في ولاية بنسلفانيا.
الاخبار اللبنانية
9/5/131227 تحرير علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha