لم يترك بيان المرجعية العليا وتفسيره الذي قدمه اليوم إمام الجمعة في العتبة الحسينية المقدسة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي، اية فرصة (شرعية) للهرب من المشاركة في الانتخابات النيابية التي ستجري نهاية الشهر القادم، نيسان.
وبرأيي، فان اهم نقطة في البيان والتوضيح هو ما يتعلق بتحمّل المواطن مسؤوليته عند الاختيار، وهذا هو جوهر مبدأ المسؤولية التي يشير اليها القران الكريم في اكثر من آية كقوله عز وجل {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} وقوله تعالى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} فلقد شاءت عدالة الله تعالى ان يخلق عباده أحراراً ثم يرسم لهم طريقي الخير والشر، ويعلمهم نهاية كل منهما، ويوضح لهم علامات الطريق السليم ثم يتركهم يختارون بلا فرض او إكراه او تفويض او اي شيء اخر، فجاء في القران الكريم {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وقوله {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ثم قال عز من قائل {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}.
لا مسؤولية من دون حرية، ولا مسؤولية من دون حرية الاختيار، والا فالأمر ظلم ما بعده ظلم، وحاشا لله تعالى ان يظلم عباده، فيفرض عليهم ثم يحاسبهم، او يسلب منهم الحرية ثم يحاسبهم، او لا يدعهم يختارون بارادتهم ثم يحاسبهم، او يسيّرهم ثم يحاسبهم، وهو القائل {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
لماذا؟ لان المرء الذي يُجبر على الاختيار لا يمكن لاحد ان يحاسبه على خياراته، كما ان الناخب الذي لا يختار بنفسه مرشحه في إطار معايير معينة، سوف يهرب من خياراته بعد ان يرمي المسؤولية على من فرض عليه الاختيار بلا إرادة منه.
ان جوهر الديمقراطية هو ان يمارس المواطن حقه في الاختيار بكامل حريته، بعيدا عن اي نوع من انواع التضليل والفرض والإكراه وما أشبه، ولذلك، فعندما رفضت المرجعية تحديد خيارات الناخب، بالإعلان عن انها تقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين، قوائم وأشخاص، إنما تؤسس لعملية ديمقراطية حقيقية، لا يكون فيها خيار الناخب مسيّرا كالاعمى الذي يقوده الآخرون الى حيث يريدون هم لا الى ما يريده هو.
تريد المرجعية ان تؤسس لثقافة ديمقراطية ليس شعار الناخب فيها (إرمها برأس العالِم واطلع منها سالم) وإنما شعارها (انا ناخب، انا حر، انا اختار، انا مسؤول) فالناخب يختار بإرادته ليتحمل مسؤولية ما يختار، ان خيرا فخيرا، وان شرا فشرا.
وبقراءة متأنية لسيرة امير المؤمنين (ع) كخليفة وكحاكم، سنجد انه لم يجبر الناس على شيئ لم يرغبون به وان كان مخالفا للشريعة، ولعل في قصة الخلافة بعد وفاة رسول الله (ص) و (صلاة التراويح جماعة) و التحكيم في معركة صفين وغيرها الكثير خير دليل على ذلك.
انه (ع) كان يدع الناس يختارون بارادتهم الحرة بلا فرض او قوة او إكراه، ليلزمهم بما ألزموا به انفسهم، فلو كان قد فرض عليهم أمرا هم كارهوه لما كان من حقه ان يلزمهم به او يحاسبهم عليه، لأنهم مجبرين على فعله بغير إرادتهم.
هي جوهر النظام الديمقراطي، الحرية المسؤولة، والإرادة الحرة المسؤولة، فالمواطن حر فيما يختار شريطة ان يتحمل تبعات خياراته، لا ان يتهرب منها عند الحساب.
ان على الناخب ان يفرض كل محاولات تسييره، ليكون خياره بإرادته الحرة، من اجل ان يتحمل مسؤولية خياراته ولا يتهرب منها، ليتعلم جيدا بان خياره الصالح مقدمة واجبة لمستقبل صالح، والعكس هو الصحيح، فخياره الفاسد مقدمة لمستقبل فاسد، انه هو الذي يحدد ما يريد في المستقبل من خلال نوعية المعايير التي يعتمدها في خياراته، فإذا باع صوته الانتخابي بمدفئة نفطية فسوف يحصد انقطاعا في الكهرباء طوال السنوات الأربع القادمة، وهكذا.
ان الاختيار بحرية ينتج اختيارا مسؤولا بلا شك، وان من يتصور ان مسؤولية المرجعية هي تحديد اسماء القوائم او الأشخاص المفضلين لديها، مخطئ بلا شك، فالمرجعية مهمتها تحديد الموضوع فقط، اما المصداق وتحديده على وجه الدقة فمسؤولية المواطن.
ان المرجعية ترفض ان تتدخل في خيارات الناخب، والا فسيكون المرشح، وقتها، مرشح المرجعية وليس مرشح الناخب، فما فائدة الانتخابات إذن؟ انها ستكون عبثا اذا ما قدمت المرجعية قائمة كاملة بالمرشحين ليصوت عليها الناخب، وكفى الله المؤمنين القتال، وعندها لن يتحمل المواطن أية مسؤولية لا في الرقابة ولا في المحاسبة ولا في الاختيار، لانه سيكون كشاهد فقط على امر بين طرفين، وهذا ما لا يريده احد، ولا تريده المرجعية. انها تريد ان تؤسس للحرية المسؤولة وللاختيار الحر المسؤول، ليكون المواطن طرفا أساسيا ومحوريا في المعادلة، وليس هامشا فيها او مهمشا.
https://telegram.me/buratha