الكاتب: مروان الغفوري
أعدت صحيفة ال"إيكونوميست" قبل أسبوعين تقريرا مهماً عن الأسرة السعودية التي تملك المال، ولا تستطيع أن تشتري به شيئاً. كان الملك، بالنسبة للصحيفة، رجلاً "طاعناً في السن بلا خيال" وكذلك كان ولي عهده الذي يتجاوز الرابعة والثمانين من العمر. تمتلك السعودية مالاً بلا حدود، فبحسب الإيكونوميست: باعت السعودية للعالم في السنوات الأربع الأخيرة "نفطاً" بحوالي تريليون دولار. لكن الأسرة الحاكمة في السعودية تشعر بقلق رهيب. قلق وجودي على نحو خاص، فهي لا تملك أي تقدير واضح عن "الإخوان النائمين" في مملكتها. فسّرت الصحيفة قطاعاً من السياسة السعودية على هذا النحو.
لو كنتُ مستشاراً للملك الطاعن في السن لطمأنته إلى أن الثورة لن تطال أرضه في القريب، ولا في على المدى المتوسط. سأقرأ عليه صفحات من "هربرت ماركوز" عن الإنسان ذي البعد الواحد، الإنسان الذي لا يمكنه أن يثور إذا كانت معادلة الثورة ليست في صالحه: إذا كان سيخسر من النعيم والثراء والهدوء أكثر مما قد يكسبه. إنما يثور، بحسب ماركوز، من لن يخسر في ثورته سوى الأغلال. النقيض الآخر لماركوز هو "فانون" في "المعذبون في الأرض". أولئك الذين يصنعون الثورة.
مسألة علاقة الحريّة بالثورة، واعتبارها أحد محركات الثورة الرئيسية، لا يمكن الجزم بها. فالمجتمع السعودي والإماراتي تنازل عن حقه السياسي نظير الحصول على حق اقتصادي، عن حقّه في اختيار مرشحه للرئاسة نظير اتجاهه إلى السوق بقوة شرائية مكتملة، ليختار ما يشاء من السوق.
إلا أن الأسرة السعودية في تعريفها لأمنها القومي تعيش اضطراباً بركانياً منذ سنواات. فبدلاً عن أن تلجأ إلى الطريق الذي لجأت إليه قطر: إقامة علاقات جيدة من قوى التحرر العربية والإبقاء على وضعها الإميري غير الديموقراطي، راحت السعودية تصطدم بكل حائط، مثل ثور مغمض العينين. خسرت العراق، غزة، السودان، فككت الصومال، خسرت اليمن، وعمان، خسرت الجماهير في مصر، خسرت تركيا، إيران، خسرت لبنان، خسرت سوريا وتونس وليبيا، خسرت البحرين، خسرت كل محيطها الإقليمي لكي تصنع أمناً قومياً.
لا يمكن أن يكون أساتذة الأمن القومي في السعودية قوى عاقلة وهم ينزفون جيوبوليتيكياً على هذا النحو. لقد وضعوا السعودية خلف القضبان.
ثمة متغير استراتيجي جديد جعل الثور السعودي أكثر خواراً ودوراناً حول نفسه. استراتيجية إدارة أوباما التي تشكلت في العامين الأخيرين تحديداَ من النصف الثاني من العام 2012: pivot to east asia أو الاتجاه شرقاً.
الكتاب الأميركيون لا يزالون منذ عامين يخوضون في هذه السياسة. فأميركا في طريقها للتخلي عن الشرق الأوسط للإبحار إلى "منظمة الباسيفيك" التي يشكل مجموعها حوالي 800 مليون نسمة! وهي منظمة بهندسة أميركيا تمتد من أستراليا حتى حدود الهند، هناك حيث تواجه أميركا عمالقة تاريخين: الهند، الصين، وروسيا.
تخلت أميركا، بالمعنى الأمني العام، عن التزامتها الصارمة بحراسة منطقة الخليج. في العام 1986، إذا تذكرنا، كانت السفن الكويتية تعبر الخليج وهي تحمل العلم الأميركي. بحسب كاتب مهم مثل "توماس فريدمان" فإن نفط السعودية لن يغري بعد الآن سوى الصين.
ذلك أن الاكتشافات النفطية الأخيررة في أميركا، إذ من المتوقع أن تحقق أميركا كتفاءً ذاتياً بحلول 2016، غيرت على نحو جذري استراتيجيتها الخارجية.
فعبر موقع "بروجيكت سينديكيت" كتبت وزيرة الدفاع الياباني قبل أشهر مقالة تدعو الدول، التي اعتقدت أنها تحظى بالحراسة الأميركية لفترة طويلة، إلى أن تتدبر شأنها الأمني لوحدها، فأميركا تنسحب.
تخلت أميركا عن وضعها الإمبراطوري. ففي العام 2000 كانت أميركا تملك في الخارج 300 ألف جندي، يعادلون بالضبط ما كانت إمبراطورية روما تملكه من جنود خارج حدودها، كما يقول بريجنسكي في "رقعة الشطرنج". لكن اهتزازها الاقتصادي الأخير، ونشوء قوى اقتصادية عملاقة جديدة كالصين غير حسابها الإمبراطوري على نحو جذري. فبحسب الواشنطون بوست "نحن نتراجع إلى المركز الثاني، لا تقلقوا" بلغ الناتج القومي للصين 10.4 تريليون دولار، ولأميركا: 13.7 تيريليون دولار في العام 2013. وإذا كانت الصين تنمو بمعدل 7%، فإنها ستكون في المركز الأول بحلول 2017!
تدبرت أميركا وضعها الجديد. فاتجهت شرقاً. سحبت قواتها من العراق، وأفغانستان، وحملت سفنها التجارية إلى بحر الصين الجنوبي، حيث يعبر في اليوم حوالي 40% من حجم التجارة العالمية.
السعودية وحيدةً، تحاول أن تدير أمنها القومي بمعزل عن النصائح الأميركية، التي لم تعد دقيقة كما كانت من قبل. بل أسوأ من ذلك، بالنسبة للسعودية، فبحسب ويكيليكس رفضت أميركا أول الأمر تزويد القوات السعودية بصور أقمار اصطناعية لمهاجمة الحوثيين قبل أربعة أعوام. إلى أن تدخلت فرنسا وقدمت تلك الخدمة الحقيرة للقوات السعودية، فضلاً عن تهديد وزير الدفاع السعودي بمهاجمة صعدة عشوائياً مما سيحرج السعودية وحلفاءها!
برزت ملامح التحوّل الأميركي الاستراتيجي إبان أزمة "أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية" في العام 2008. فقد أصدرت إدارة بوش قائمة تحذيرات وتهديدات لم تمنع بوتين من اجتزاء المقاطعتين عن جورجيا والدخول بقواته العسكرية لتفعيل انفصالهما عن الأرض. بعد تهديدات أميركية بالغة النشوة عادت الدولتان إلى التواصل من جديد عبر مجموعة الثمان، ومجموعة العشرين، وانتهت الحرب الباردة على أطراف جورجيا. يتوقع كتاب أميركيون كثيرون أن قائمة أوباما في القرم هي نفسها "المنيو" الخاص ببوش، ولها نفس المآلات.
ستتخلى أميركا عن القرم، كما تخلت عن أبخازيا، وأوسيتيا، والعراق، وكابول. تركت العراق لمصير انتحاري غير مسبوق تاريخيا. بنفس الطريقة ستترك حليفتها السعودية. يخاطبالكاتب المرموق "راسل ميد" روسيا: أما بالنسبة للطاقة فإن الغاز يتواجد على كل أرجاء الأرض. كان يتحدث عن ما يسميه بـ the razzle dazzle game of Putin
أي أن الطاقة، التي كانت الرباط الوثيق لأميركا في الحجاز، لم تعد موضوعاً مركزياً بالنسبة لأميركا، على خلاف دول أوروبا، كتركيا وألمانيا وفرنسا، المعتمدة بـحوالي 40% من احتياجها، ألمانيا تحديداً، على روسيا.
فشلت السعودية في إقناع أميركا بوجهة نظرها فيما يخص البحرين. قال سعود الفيصل: إن أميركا سلمت العراق لإيران. فشل في إقناع أميركا بالتدخل العسكري في سوريا، فيما اعتقد أنها حرب ضد إيران لا ثورة من أجل العيش والكرامة والحرية! يقول دبلوماسي غربي رفيع في صنعاء قبل أيام:
وضعت السعودية ملف اليمن في الدولاب، وأدارت لها الظهر كلياً، ولم نستطع إقناعها حتى الآن بتغيير موقفها.
لم يكن الموقف كذلك في العام 2009، بحسب وثائق ويكليكس. في تلك الأثناء كتب السفير الأميركي في الرياض لهيلاري كيلينتون قبل زيارتها المرتقبة للسعودية: ستسمعين من الملك تأكيداً حازماً على وحدة الأراضي اليمنية، فلا شيء يقلقه مثل خاصرة المملكة الجنوبية.
انتقلت السعودي إلى طور الثور الأعمى. إنها تنام على بحيرات من المال، ولا ترى في المدى سوى شبح زوالها.
لم تستطع السعودية اكتشاف أعدائها فتخيلتهم، اخترعتهم الواحداً تلو الآخر، حتى امتلأت حدودها وشوارعها بالأعداء. وضعت نفسها خلف القضبان. عزلت نفسها جيوبوليتيكياً، أرادت أن ترى جيرانها كجيران يفعلون ما تريد فقط. عندما لم يعد الزمن يسمح بذلك فقدت توازنها ولم تستطع أن تطوراً شكلاً جديداً لتعريف السياسة الخارجية، ولا للأمن القومي. بحسب المذاكرات "الشفوية" لنصر طه مصطفى فقد طلب السفير السعودي لقاء صالح بعد توليه الحكم بفترة قصيرة.
عاتبه السفير بسبب إجراء تعديل وزاري بسيط " بلا مشاورة!" إلى أن جاء الربيع العربي، وبموازاته تغيرت الاستراتيجية الأمنية واالاقتصادية الأميركية فوجدت نفسها في منطقة لم تعد تحرسها مظلات الصواريخ الأميركية، إذا استعرنا تعبير وزير الدفاع اليابانية، ولا يبلغ السفراء السعوديون بالإجراءات الحكومية قبل تنفيذها..
تريد السعودية أن تقول للعالم إنها قادرة على أن تقف على ساقيها أخيراً. لكنها بطة عرجاء، وعمياء. لا تقف على ساقين ولا ترى لأبعد من نصف متر. ها هي تعيد من جديد إنتاج "محور الاعتدال" في بيئة تغيرت كلياً، على الأقل على المستوى الشعبي. استعادت النظام في مصر، حيث 25% من تعداد سكان الوطن العربي،
وفشلت في تقدير المشهد الكلي. فالنظام الجديد في مصر ليس لديه من مشروع واضح سوى "مكافحة الإرهاب" أي تدمير التصنيف الإئتماني لمصر، فيما يخص سجل الدول الجديرة بالاستثمار. ستتراكم نتائج المشروع الأمني سريعاً وتخنق النظام العسكري بسلاسة.
نقلت صحيفة أميريكية مرموقة، أظنها وول ستريت جورنال، عن الفيصل قوله إن على النظام المصري أن يعتمد على نفسه في المستقبل فالدعم المالي الخليجي ليس بلا نهاية! لكن الخارجية السعودية سرعان ما أنكرت تصريحها. بإنكارها هي لم تفعل أكثر من أنها أخرت خسارتها مصر!
السعودية خلف القضبان، تختنق بسبب نظامها الطاعن في السن، والذي بلا خيال، وبسبب ما خلقته من العبودية القهرية والطوعية في بلدها حتى أصبح بلداً بلا إبداع. أي بلا مجازفة، بلا مغامرة، بلا ابتكار. .ومن ذلك الابتكارات السياسية بالطبع، وكذلك الأمنية.
وقديماً قال عنترة:
العبد لا يجيد الكر، العبد يجيد الحلاب والصر.
https://telegram.me/buratha