احمد شرار
كان هادئا، وقد رسمت السنين الصعبة أثارها بقسوة على وجهه، تخطى الخمسين أو شارف على الستين من العمر، بتقديري، أعتدل في جلسته عندما وصلنا لنقطة التفتيش التي نغادر بعدها بغداد، ونحن متوجهين الى أرض كربلاء، في ذلك الباص الصغير.
سبقته بالحديث: أرجوا ألا تزعل أن ناديتك حاج.
أبتسم قائلا: قل لي من أي مواليد أنت؟
: سبعيني، تحديدا من مواليد سنة سبعين حاج، أجابني: أتعرف ان الفرق بيني وبينك؟ بضع سنين، امتدت يده الى جيبه وقد اخرج هوية الأحوال المدنية ضاحكا: أقرأ الهوية حتى تصدقني: صدقتك حاج.
بدأ يسرد علي رحلة حياته وقد أغمض عينيه, وقد اسند رأسه على الكرسي, كنا من عائلة متمكنة ماديا بفضل من الباري عز وجل, نسكن منطقة راقية في بغداد ومن أسرة معروفة, ومن سوء حضنا, أن (هدام) كان جارنا في بداية الستينيات, وقد حدثت مشادة كلامية بينه وبين أبي حينها, أطبق رأسه متحسرا ومرددا (كوم حجار ولا هالجار),لم ينسى ذلك الموقف, حين جثم على صدر العراق , توالت السنين, وكبرنا وقد ذهبت أموالنا في سنين العجاف وقد شح رزقنا, لم أُقبل بأي وظيفة حكومية, كانت الذرائع شتى, لكني كنت أعرف السبب ,هي تلك المشادة ,وحتى قبل سقوط النظام بثلاثة أعوام.
طرق بابنا أحد الأشخاص الذين يرتدون بدلة رسمية زيتونية، فأجابه أبي، طلب ذلك الشخص، الذي وجه له دعوة رسمية لحضور، مأدبة غداء دعاه اليها (الواجب) كما كان يعرف (هدام) عند افراد أجهزته القمعية، رد أبي بنفور، رافضا الحضور الى تلك المأدبة، سوف تندم على هذا، هذه هي أخر كلمات ذلك الشخص.
لم يطل المقام بأبي معنا بعدها، فقد جيء به، وقد ملأت الكدمات كافة أنحاء جسمه وهشم رأسه، كان شبه حي، غادرنا بعده بأقل من شهر وقد كتب في خانة أسباب الوفاة، بسب الشيخوخة، كانت رسالة واضحة، تجلت عندما حضر ذلك الشخص عينه، مجلس العزاء وقد قال لنا بصريح العبارة: ليكن هذا الدرس الصغير عظة لكم، غادرنا بعدها.
بعد سقوط النظام وفتح ملفات الشهداء، بحثنا في كل مكان، فلم نجد أي دليل أو أي أثبات يشير الى تعذيب والدي وقتله، او نعرف ما الذي حدث له.
ضاع دم أبي وضاعت معها حقوقنا، مسح دمعه عينيه بيده وقد بأنت عروقها.
مشادة كلامية بسيطة، قبل أربعين سنة غيرت مجرى حياتنا، فأنا حتى الان بلا وظيفة، وقد هدتني السنون، لا يوجد ضامن لعائلتي، ضاق صدري، كنت أ امل أن تستطيع هذه الحكومة من أن ترد لي جزء من حقوقي، وتضمن لي حياة أبنائي، خذلونا، مع الأسف.
ها أنا في الطريق الى سيد الشهداء وأبو المظلومين، لعلي أفرغ شيئا من همومي.
رقت أدمعي وتسللت من جفني بالرغم مني، أثر سماعي قصته، لا تهتم التغير قادم بأذنه تعالى، فالعراقيين لا يسكتوا عن حقوقهم ولن ينسوا أخوانهم، لم يبق على الانتخابات شيء.
لمعت عيناه حين غرة، وأدار ببصره نحو لافتة تشير الى المجلس الأعلى على الطريق، توسطتها صورة للسيد الحكيم وقد رسمت تلك الابتسامة الهادئة على وجهه، ظلت عيناه تلاحق تلك اللافتة وهو يقول: ما خيب أبا المظلومين ظني يوما.
احمد شرار / كاتب وأعلامي
https://telegram.me/buratha