نزار حيدر
{انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
عجيب!!! هل يمكن ان يَكذِب المرء على نفسه؟ وكيف؟ ولماذا؟.
لقد سمعنا ان الانسان يكذِب على الآخرين، إما للتهرّب من التزام او الهروب من موقف محرج او ما أشبه، امّا ان يكذِب على نفسه! فكيف ذلك؟.
الآية المباركة تجيب بالاثبات، نعم. فقد يكذب المرء على نفسه، فعندما:
/ لا يريد المرء ان يتعلم / ولا يريد ان يسمع الحقيقة / ويصغي الى الكلام الذي يُدغدغ عواطفه وليس الذي يحاكي عقله ووجدانه، ويتلقى صدى حديثه فقط / يكون شعاره اكذب ثم اكذب ثم اكذب، عندها سيكذب الانسان على نفسه.
ان اتخاذ الانسان الكذب كوسيلة من وسائل تواصله مع الآخرين، فيتحوّل الى طبيعة في شخصيته، فسيكذب على نفسه مع مرور الوقت، ولعل من ابرز آثار ذلك هو النفاق الذي يبتلي به المرء، والعياذ بالله، او ما يسمى بازدواج او انفصام الشخصية، فتراه يمثّل دورين في آن واحد، وصدق الله تعالى الذي تحدث عن ذلك فقال {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
فاستمراء الكذب وتعوّده واستساغته حتى يصل الى حد الكذب على النفس، وخَلْفُ الوعد وعدم الالتزام باي عهد، يعقبه النفاق لا محالة.
فمتى يكذب المرء على نفسه؟.
اولا: عندما يعرف الحق وتاخذه العزة بالإثم، فيرفض الانصياع له والتسليم به، ويظل يعاند ويجادل ليتهرب من الحق، ولعل في قصة نبينا ابراهيم (ع) مع قومه خير دليل واضح على ذلك، يقول تعالى، بعد ان يسرد تفاصيل تحطيم ابراهيم (ع) للأصنام {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ* قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ* فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} ومع ذلك، ومع انهم عرفوا الحق، إلاّ ان جوابهم كان، كما يخبرنا القران الكريم {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.
انّه العناد والتزمّت والكذب على النفس، وهو حالنا اليوم، فعلى الرغم من اننا نعرف جيدا علّة تخلّفنا وأسباب مشاكلنا ومصدر فشلنا، ومع كل ذلك نكذب على انفسنا ونسعى بكل الطرق للهرب من الاستحقاقات التي يفرضها علينا الاعتراف، فترانا نلوم العالم الا انفسنا، ونحمّل العالم السبب الا انفسنا، ونرمي بالمسؤولية على كل العالم لنبرّئ انفسنا، وهذا هو الكذب على النفس بعينه.
انه صراع العقل والعاطفة، فإذا غلبت الثانية الاول لجأ الانسان للكذب على نفسه لتسليتها.
ثانيا؛ كذلك، يكذب المرء على نفسه عندما يعِدُ وهو يعرف في قرارة نفسه انه أعجز من ان يفي بوعده، ولذلك قال أمير المؤمنين (ع) في ذلك {الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَة سَلَبَتْ نِعْمَةً وَجَلَبَتْ نِقْمَةً} وقوله (ع) {الْمَسْؤُولُ حُرُّ حَتَّى يَعِدَ}.
للاسف الشديد فان نكث الوعد في مجتمعاتنا صار من أحقر الذنوب الاجتماعية، فالأب يعد ابنه ولا يفي، والام تعد ابنتها ولا تفي، والمرشح يعد الناخب ولا يفي، والكل يعد الكل ولا احد يفي، انّه كذب متبادل، يكذب بعضنا على البعض الاخر، وقبل ذلك نكذِب كلنا على انفسنا، حتى أصبحنا اليوم المصداق الحقيقي للآية الكريمة.
والغريب في الامر، اننا نعِد ونعرف بأننا سوف لن نفي، فنشفع وعدنا بالعبارة (ان شاء الله) او (الله كريم) فعندما لا نفي، ونحن نعرف مسبقا اننا سوف لن نفي، يكون جوابنا (ان الله تعالى لم يشأ)!!! انه النفاق والكذب على النفس، أليس كذلك؟!.
ثالثا؛ واخيرا، عندما يتكلم المرء ويعظ ويخطب ويحدّث الناس، وهو يعرف في قرارة نفسه انه يناقض، في أفعاله وأعماله، ما يتحدّث عنه، فهو في هذه الحالة يكذب على نفسه قبل ان يكذب على الآخرين، ولقد قال الله تعالى متحدثا عن ذلك بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
كما حذر أمير المؤمنين (ع) من هذه العادة بقوله (ع) {مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالاِْجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ}.
الا ليتهم يعِظون انفسهم بدلا من ان يعظوا الآخرين.
وكل رمضان وانتم بخير.
https://telegram.me/buratha