نزار حيدر
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
هذا يعني ان في كل مجتمع من المجتمعات أمة من الناس لا شغل لها الا تثبيط المصلحين، فإذا كتب احدٌ ينبّه هاجموه، واذا خطب اخر محذّراً اتّهموه، واذا انتقد ثالث طعنوا في نواياه، وهكذا، فهم لا يحرّكون ساكنا، ولا يحاولون التغيير والإصلاح، الا ان ألسنتهم طويلة ضد كل من يحاول ذلك، وشعارهم دائماً (ميفيد) فلا الكلام ينفع، برأيهم، ولا النقد يفيد ولا النصيحة لها اثر، فما العمل اذن؟ هل نجلس في بيوتنا ونضع رجلا على رجل بانتظار المعجزة؟ هل نصمتْ بانتظار المخلّص الموعود؟ هل نتغافل عما يُراد بنا بانتظار ان تنزل على أعدائنا صاعقة من السماء فتقتلهم وتخلّصنا مما نحن فيه؟ الا ترون ان حالنا يزداد سوءا يوما بعد اخر؟ هل تريدون ان نكون {كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ!} على حد قول أمير المؤمنين (ع)؟!.
ان كل عمليات التغيير التاريخية تبدأ بكلمة لتتبلور في فكرة لتتحول الى مشروع فيعمل من اجل تحقيقه رجال قليلون يؤمنون بالمشروع ويستعدّون من اجل تحقيقه للتضحية، فلمّا يشعر المجتمع بصدقية المشروع وإخلاص رجاله يلتحقون به ليتحقق التغيير التاريخي المرجو.
وهذه هي حقيقة ما جرى في كل الامم عبر التاريخ، ولم يشذ عنها الحدث التاريخي العظيم الذي شهدته الجزيرة العربية في البعثة النبويّة الشريفة، فالتغيير بدأ بثلاثة {رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا} على حد قول أمير المؤمنين عليه السلام، ليتحوّل التغيير الى سيل هادر غيّر مجرى التاريخ، ولو ان رسول الله (ص) كان قد أصغى للنفر الذين تحدثت عنهم الاية المباركة اعلاه، او كما يصفهم القران الكريم بقوله {الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} لما استقر للدين أمرٌ، ولما كنا اليوم مسلمين.
كذلك، فان التغيير التاريخي العظيم الذي شهدته أوربا قبل عدة قرون، ليستقر بعد الحرب العالمية الثانية، هو الاخر بدأ بكلمة قالها فيلسوف فتحولت الى فكرة تبناها مفكر لتتحول الى مشروع عمِلت على تحقيقه مجموعة صغيرة من العقلاء والحكماء الذين أبدوا استعدادا منقطع النظير في الدفاع عما آمنوا به وصل الى حد سوقِهم الى مقاصل الإعدام بعد محاكم تفتيش صورية حكمت عليهم بالإعدام بتهمة محاربة الله تعالى وأدواته في الارض، الكنيسة، على حد زعمهم، ولو انهم كانوا قد أصغوا الى كلام المثبّطين وصدّقوا ان لا شيء ينفع في تغيير الواقع، لما كانت أوربا اليوم على ما هي عليه، ولظلّت في ظلماتها الى الان.
لذلك:
الف: يجب ان لا نصغِ ابدا الى الذين يقولون (ميفيد) فلقد اثبتت تجارب الانسانية بأنّ الكلام ينفع والفكرة تنفع والرأي ينفع والنقد ينفع والموعظة تنفع وكل شيء ينفع.
انهم ينفون التأثير من دون ان يقدموا اي بديل، وكأنهم يريدون نحرنا بسهام الياس والقنوط.
نعم، قد لا يترك الكلام اثره في اللحظة، فقد يستغرق بعض الوقت، ولكنه في النهاية سينفع بالتأكيد، فلماذا ينفع في كل مكان ولا ينفع في العراق مثلا؟ هل ان عقولنا تختلف عن عقول الآخرين؟ ام ان آذاننا لا تستوعب الحديث؟ ام ماذا؟.
باء: ينبغي ان لا نيأس اذا رأينا الناس لا تصغي إلينا، او ان المسؤول يستهزيء بما نقول ونكتب، فالامر يحتاج الى مثابرة ومواصلة واستمرارية حتى يؤتي الكلام ثماره، ولعل في قصة نبي الله نوح عليه السلام مع قومه خير درس وعبرة وانموذج يحتذى، فعلى الرغم من انهم واجهوه بالضد وبكل الطرق، الا انه ظل يواصل دعوتهم للحق، كذلك بكل الطرق، دون كلل او ملل، حتى قضى الله أمرا كان مفعولا.
يقول القران الكريم راسما تلك الصورة بقوله {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}.
علينا ان نغيّر الوسائل والأدوات بين الفينة والأخرى، وكذلك الأساليب وطريقة العرض. فالظروف تتغيّر، كما انّ الحاجات والأوليّات هي الاخرى تتغيّر.
جيم: نحن بحاجة الى ان نُحسِن الظن بالناس والمجتمع، فليس كلّهم لا يقرأون او لا يتأثرون او لا يهتمون، ولذلك يجب ان يكون عندنا أمل في التأثير، ثم نعمل على زيادة نسبته شيئا فشيئا.
دال: يجب ان نتعامل مع الكلمة كمسؤولية، فنعرف كيف نختارها؟ ولمن نقولها؟ وأين نقولها؟ وكيف نقولها؟ بمعنى اخر، فان علينا ان نجتهد في قول الكلمة، اي نبذل قصارى جهدنا ونحن نسعى لقولها من اجل ان تغيّر، فإذا أثّرت فبها، وان لم تؤثر فلقد فعلنا الذي علينا، واسقطنا الواجب الوطني والديني والأخلاقي الذي كان يجب علينا ان نتصدى له، وليس علينا بعد ذلك ان ننجح، وصدق الشاعر الذي قال:
على المرء ان يسعى بجُهده
وليس عليه ان يكون موفقا
وكل رمضان وانتم بخير.
https://telegram.me/buratha