{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
لا يختلف الانسان عن الحيوان بالخِلقة، فلكل منهما (قلبٌ وعين ٌوأُذن) وإنما يختلف الاول عن الثاني بالجوهر، الا وهو العقل، فبينما يهتدي الانسان لعمل الخير بعقله، يهتدي اليه الحيوان بفطرته التي يسميها القران الكريم بالوحي، كما في قوله تعالى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وفي الاية إشارة الى ان القلب، وربما المقصود به النية المعقودة بيقين، والعين والأذن، هي مصادر التغذية للعقل، فإذا تم تفعيلها وتنشيطها بشكل سليم وصحيح، فان العقل سيعمل بشكل سليم وصحيح، اما اذا لم يوظّفها الانسان بالشكل السليم، فان العقل سيمرُض ولا يُنتج المطلوب منه والذي ينبغي ان ينتهي بالعمل الصالح، ولهذا السبب تصف الاية المباركة بعض الناس على انهم يمتلكون (القلب والعين والأذن) من ناحية الخَلق، الناحية الفسيولوجية، الا انهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون، كيف؟.
اولا: فعندما لا يتعامل الانسان مع الفكر بشكل سليم، فيبحث عن التوافه ولا يعير اهتماما للفكرة الحقيقية، يقبل بأن يكون طبالا في جوقة القائد الضرورة، عندها يكون من مصاديق الاية الكريمة، كما يقول تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }.
ثانيا: وعندما يرفض ان يصغي الى الحقيقة من اجل ان يؤمن بها، فتراه يهرب منها مستكبرا ومعاندا، إما لمصلحة شخصية او خوفا على منافع يستفيدها من القائد الضرورة، او خوفا من جلاوزة السلطة، عندها، كذلك، سيكون مصداق الاية المباركة، ولهذا المعنى أشار القران الكريم بقوله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
ثالثا: أولئك الذين يتجاهلون قول الحق، ويتغافلون عنه، لحاجة في انفسهم، الذين يصغون بآذانهم ويرفضون بقلوبهم، أولئك، كذلك، مصداق الاية الكريمة، وهم يظنّون انهم يخادعون الله والذين آمنوا {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ولقد تحدث عنهم القران الكريم بقوله {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}.
رابعا: وإنّ للحُجُب التي يضعها الانسان على قلبه وسمعه لها دورٌ كذلك في ان يكون مصداق الاية الكريمة، فلقد تحدّث القران الكريم عن ذلك بقوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}.
خامسا: فان للتزمت والعصبيّة والعناد والإصرار على الباطل واتباع الهوى حد العبادة ليتحكم بالعقل بشكل مطلق، كلها عوامل تحوّل الأعضاء الثلاثة المذكورة في الاية المباركة الى مجرد أشكال وأحجام ليس لها اي معنى او فائدة، فيكون المرء مصداق الاية، كما يتحدث القران الكريم عن ذلك بقوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
وإنّ من هذه الحجب تقديم المصالح الحزبية والفئوية على الصالح العام، ومنها الخوف وعبادة الشخصية والتقليد الأعمى، ان كل ذلك، وغيره، تعتبر حجباً تسلب العقل التفكير الحر، وتمنحه اجازة مفتوحة، فينتهي دوره في حقيقة الامر.
سادسا: كما ان للمِراء دور في ذلك، على حد قول أمير المؤمنين (ع) {فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ} وكذا التعنّت في السؤال، عندما نصح سائلٌ بالقول {سَل تَفَقُّهاً وَلاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ}.
اما اذا اجتمعت كل هذه في واحد، فيصدُق عليه قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ}.
وكل رمضان وانتم بخير.
https://telegram.me/buratha