نزار حيدر
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
اذن، نحن امام نوع خاص من الفتن، فهي تصيب مجموعة خاصة من الناس، الا ان اثرها السيء يصيب كل المجتمع، ففي قصص الراوندي، طاب ثراه، بإسناده الى الامام الباقر (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع): أوحى الله تعالى جلّت قدرته الى شعيا (ع) اني مهلك من قومك مائة الف، أربعين ألفا من شرارهم وستين ألفا من خيارهم، فقال (ع) هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال: داهنوا اهل المعاصي فلم يغضبوا لغضبي.
وان من أسوأ هذا النوع من الفتن هو الاستبداد السياسي الذي يبدأ عندما يطري المتملّقون على أفعال الحاكم بغير استحقاق، فيُفتتن الحاكم بكلامهم، كما يقول الامام أمير المؤمنين (ع) {رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ} لينمو عنده الشعور بالرضا بالنفس ليتحول شيئا فشيئا الى اعتزاز بالنفس فغرور فاستبداد فطغيان، وعند ذلك تتحول الفتنة الفردية الى فتنة اجتماعية تترك أثرها السيئ على كل المجتمع فتكون مصداق للآية الكريمة، ولذلك نهى أمير المؤمنين (ع) المتملّقين ولو بشق كلمة فقال {وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ، وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الاِْطْرَاءَ، وَاسْتَِماعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ ـ بِحَمْدِ اللهِ ـ كَذلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لله سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ.}.
وإنما شرع الله سبحانه وتعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر للحيلولة دون نمو (الانا) عند الحاكم من خلال الوقوف بوجهه والتصدي لتماديه السياسي قبل ان يتحول الى استبداد يدمر المجتمع. فلماذا لا نجد لهذا المبدأ موقعا في حياتنا السياسية؟ هل صحيح ان بإمكان احد ان يهرب من طغيان الحاكم؟ هل يتمكن أحد ان يغلق الباب على نفسه هربا من الاثار السلبية التي يتركها استبداد الحاكم؟ ابدا، فكل تجارب الامم والشعوب تجيب بالنفي، لان الله عز وجل شاءت قدرته وحكمت ارادته على ان يكون المجتمع، اي مجتمع، منظومة واحدة، يؤثر ويتأثر كل جزء منها ببقية الأجزاء، من المستحيل ان يتصور أحد ان بإمكانه الهرب من اثار الاستبداد والطغيان اذا ما نمى عند الحاكم، ولهذا السبب فان الاية الكريمة اعلاه تحذر أشد الحذر من مثل هذه الفتن، لينتبه المجتمع الى تصرفات الحاكم، فيراقبه ويحاسبه ويواجهه بمجرد ان يبدر منه اي تصرف تُشمُّ منه رائحة الاستبداد والتسلّط غير المشروع والتفرد بالسلطة، قبل ان يستفحل ويتضخّم، فثمن تصحيح خطا الحاكم وهو بعدُ صغير لم يستفحل اقل بكثير منه اذا ما تضخم الخطا وتحول الى سياسات ومناهج، فقد يكون ثمنها، عند ذاك، دمار البلاد وانهار من الدماء.
وكلنا يتذكر، او على الأقل سمع وقرا، كيف ان الطاغية الذليل صدام حسين بدا بالسلطة حقيرا تافها، الا ان سكوت المجتمع عن أفعاله التي بدأت تبدر منه لتشير الى مساراته الاستبدادية والطغيانية، تارة بعنوان (ما لنا والدخول بين السلاطين) واخرى بعنوان (كل من يتزوج أمي اسميه عمي) وثالثة بعنوان (اليد التي لا تستطيع ان تقطعها، قبّلها) ورابعة بعنوان (يكفي انني في مأمن وان عائلتي بعيدة عن طغيانه وجبروته) وهكذا، هي التي صنعت منه ديكتاتورا فريدا من نوعه، لم ينج منه العراقيون الا بالغزو والاحتلال، ولو انهم اخذوا على يديه بادئ ذي بدء لما تضخم طغيانه وتوسع استبداده الى تلك الدرجة المعروفة.
الى جانب هذه العناوين، كان هناك عنوان اخر لا يقل خطورة عنها، وقد ساهم هو الاخر في صناعة الطاغوت، الا وهو تقديم البعض لمصالحهم الخاصة على الصالح العام، من النفعيّين والوصوليين الذين يبحثون عمن يؤمّن لهم مصالحهم بغض النظر عن عنوانه وهويته وسياساته ومنهجياته، المهم ان يؤمّن مصالحهم ولتذهب البلد والمجتمع بعد ذلك الى الجحيم، ولقد حدثنا القران الكريم عن هذا النوع من الناس الذين نسمّيهم بالانانيين بقوله {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
الا ان التجربة اثبتت بان كل هؤلاء سيتضرّرون من الاثار السيئة التي تتركها سياسات الحاكم المستبد والطاغوت المتجبر، فلم يسلم منهم احد ابدا، ولذلك ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار الصالح العام، الذي نحن جزء منه، عندما نتعامل مع السلطة، فنواجه خطأها لحظة وقوعه، ليس دفاعا عن الآخرين فحسب وإنما دفاعا عن انفسنا لأننا جميعا في مركب واحد اذا خرقهُ الحاكم او احد أعوانه فانه سيغرق ويُغرِقُنا معه، فلن يسلم احدٌ منا، وهذا ما نراه اليوم في العراق، فالمركب يغرق ويغرق بسبب حماقات السياسيين ومن بيدهم السلطة، بعد ان استفحلت أخطاءهم للتحول الى جرائم بحق الشعب والوطن، بسبب سكوت الناس عنها وعدم ابداء اي رد فعل حقيقي يعادل الخطا بصرخة مدوية تتحدى الحاكم وتأخذ على يديه.
والى كل الذين سكتوا او داهنوا او كذّبوا على الحاكم لإرضائه، او غضّوا الطرف عن أخطائه لمصلحة خاصة او برّروا له خوفا على موقع او منصب او حفنة من المال الحرام، او خشية فتح الملفات الملفّقة او الحقيقية، لا فرق، الى كل هؤلاء أقول: لم يعد هناك من فرصة لتجنّب الآثار السلبية للفتنة، فلابد ان تدفعوا الثمن.
وكل رمضان وانتم بخير.
https://telegram.me/buratha