نزار حيدر
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}.
ترى، متى يكون ذلك؟ وكيف؟.
إنما يعبد المرء هواه، عندما:
اولا: يجادل ليس للوصول الى الحقيقة، وإنما لإثبات الذات والانتصار لها، ويكون ذلك عندما يجادل المرء بلا أساس يعتمد عليه، ولقد حكى القران الكريم عن هذا النوع من الناس بقوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}.
لقد حدّد القران الكريم فلسفة للجدال والحوار، كما انه حدد أدوات ذلك من اجل نتيجة مشخّصة وواضحة، فلا يأتي الجدال عقيما او بلا فائدة، لان ذلك سيدفع بالمرء الى ان يعبد هواه على ان يسلّم بالحقيقة، فقال تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
ثانيا: عندما يُصاب المرء بمرض عبادة الشخصية، فهذا النوع من الناس يسيّره الهوى وليس العقل، ولذلك ترى معبوده يتحكم في عقله وفي طريقة تفكيره وفهمه للأمور، على قاعدة (نفّذ ولا تناقش) فإذا اصطدم بالحقيقة سعى لليّ عنقها على ان يقلل من شأن القائد الضرورة، واذا واجه الفشل بذل قصارى جهده لتبريره، لا يقبل من أحدٍ نقدا للقائد الضرورة، ولا يسمع لاحد اذا نبّهه لخطأ ارتكبه معبوده، فهو يرى العالم من منظاره، ولا يعرف طعما للحياة الا بطعم القائد الضرورة.
ففي قوله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قال المفسرون؛ إنّ اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله تعالى هو اصغاؤهم لهم واطاعتهم من غير قيد وشرط، اي بمعنى عبادة الشخصية، والتي أشار اليها الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بقوله في تفسير الاية {اما والله ما دعوهم الى عبادة انفسهم ولو دعوهم الى عبادة انفسهم لما اجابوهم، ولكن، أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون}.
انهم يعبدون القائد الضرورة ما امتدت السفرة، فإذا جاء يوم الحساب تراهم يلجأون الى التبرير وتحميله المسؤولية، كما يقول تعالى {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}.
وهو المرض الذي ابتلينا به اليوم، والذي ضخّم شخصيات السياسيين والقادة الى حد الطغيان والاستكبار، اذا بالمواطن يرى فيهم مخلوقات خاصة تختلف عنّا.
ثالثا: وعندما يركّز المرء في كل حركاته وسكناته على مصالحه الشخصية والذاتية من دون ان يعير للمصلحة العليا أيّة قيمة.
انهم أشد الناس حرصا لتجميل خطأ الحاكم، والتبرير لفشله، كما يحدثنا القران الكريم بقوله {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
ففي المجتمعات المتخلّفة توجد فئة من الناس تلتف حول المسؤول، تصفق له وتطبّل وتزمّر وتمدح وتبرّر وترد على من يختلف معه لضمان مصالحها الخاصة فقط، وهي مثل الكومبارس في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، لا تجدها الا عند الأثارات لصناعة الأزمات، سواء الدينية منها او المذهبية او الأثنية، فهي كالابواق لا تسمع صوتها الا عند الإثارة والأزمة، يوظّفها الحاكم لتسميم الأجواء ليصطاد في الماء العكِر، فلا تسمع منها الا كل ما يضر بوحدة المجتمع واستقرار النفوس وتهدئة الأجواء، فهي امتهنت ان تكون بوقاً للقائد الضرورة، ولقد ذكر القران الكريم صوتها المشار اليه بقوله عز وجل {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ومن دون تسمية، فان متابعة بسيطة للفضائيات هذه الايام، فستتعرف على عدد منهم.
ولقد أشار اليهم أمير المؤمنين (ع) مرة، وقد أُتي بجان ومعه غوغاءُ: {لاَ مَرْحَباً بِوُجُوه لاَ تُرى إِلاَّ عِنْدَ كُلِّ سَوْأَة}.
نعم، انهم غوغاء وفوضويون، حذّرت منهم المرجعية الدينية العليا اكثر من مرة في الفترة الاخيرة، خاصة وان العراق اليوم يمر بمرحلة خطيرة جدا يهدد فيها الإرهاب البلد والعملية السياسية برمتها، ولذلك ينبغي ان نقاطع هذه النماذج الثرثارة التي تثير الفتنة وتعرقل اية محاولة للتوصل الى تفاهمات سياسية من نوع ما.
انها توظف الاعلام للقضاء على السياسة، وهي تنشط اكثر كلما شعرت ان معبودها على شفا جرف هار، او ان القائد الضرورة بات قاب قوسين او أدنى من الفشل، فتراها تسعى لملء الفضاء صخبا وعويلاً، بتسقيط هذا واتهام ذاك، وبنشر الأكاذيب والافتراءات، لأشغال الساحة بالتوافه من الامور وإبعادها عن التفكير الجدي بالمصير السيء المحتمل.
اننا اليوم باحوج ما نكون الى التهدئة الإعلامية لنفكر بعقولنا بعيدا عن صخب الضوضاء، فصناعة الأجواء المثيرة لا تدع احدا يفكر بهدوء وبعقلانية، وهذه هي مشكلتنا دائماً، لأننا لا نفكر بتجرد وإنما بالظاهرة الاجوائيّة التي تسيّر وتتحكم بطريقة تفكيرنا شئنا ام أبينا، ولذلك لم تأت نتائج التفكير سليمة لانها ليست علمية ولا هي بإرادة طبيعية، وإنما في ظل اجواء تصنع الخوف والرعب والرهبة، ما تُنتج حلولا متشنّجة وغير حقيقية، الامر الذي يعقّد مشاكلنا في كل مرة.
لقد تحدثت قصة نبي الله سليمان (ع) عن فكرة بهذا الصدد في غاية الروعة والأهمية، فعندما بعث نبي الله سليمان (ع) الهدهد بكتابه الى الملكة وقومها، طلب منه ان لا يمكث عندهم ويتوارى عن القوم، من اجل ان يدعهم يفكّرون بحرية ويتخذون قرارهم بكامل إرادتهم، بعيدا عن التهديد والوعيد وصخب الضوضاء، وانّ وجود رسول النبي ووقوفه على راسهم يخلق مثل هذا التصور والشعور عندهم، ولذلك أوصى النبي سليمان (ع) الهدهد بقوله {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}.
فهل ستدعنا أبواق القائد الضرورة نفكر بإرادة حرة، بعيدا عن التهديد والوعيد والتخوين وصخب (بوق مرزوق)؟.
وكل رمضان وانتم بخير.
https://telegram.me/buratha