( بقلم : حسين المياحي )
من أبرز ما يميز التوجه الوهابي، ومتطرفي الحنابلة عموماً، أنهم ليس فقط لا يطيقون الآخر، ولا يقبلون به، إنما يعمدون إلى الشدة والغلظة والعنف بأبشع صوره، لإزاحة كل من خالفهم من الطريق، وبذلك قدّموا نموذجاًَ سلبياً وسوداوياً عن الإسلام، بحيث اقترن اسمه بالإرهاب في أذهان الكثيرين، حتى من أبناء المسلمين. فلا تكاد تواجه أحدهم إلا وهو يحمل في نفسه صاعقاً، وقنبلة موقوتة، سرعان ما تتفجر لأتفه الأمور، أو تجده صدره يغلي كالمرجل، وهذا ما يشكو منه المسلمون جميعاً.
يقول الأستاذ الدكتور عثمان محمد جا (وهو أبرز علماء غامبيا في أفريقيا، وأحد قضاة المحكمة الاستئنافية هناك، والنائب الأول للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وكان قد درس في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وتربى على مائدة الوهابيين، ثم تبين له غلوهم وابتعادهم عن المنهج الصحيح للإسلام): سألني أحدهم وهو يحضر مؤتمراً إسلامياً: من أي البلاد؟ قلت: من غامبيا. قال: هل أنت من الصوفية؟ قلت: لا، قال: الحمد لله!.ثم قال لي: من أي المذاهب أنت؟ قلت: أنا مسلم لا أنتمي إلى مذهب. فقال: أعوذ بالله، لو كنت أعلم أنك كذلك لما كلّمتك. ثم قام عني وانصرف غاضباً.
هذا مع المسلمين السنة، أما عن الشيعة الإمامية والزيدية والإباضية، فحدّث عن البحر ولا حرج، فبمجرد أن يعرف الوهابي أنك من هؤلاء، أو تعيش في بلد فيه أحد من هؤلاء، أو أنك قدمت من عمان أو البحرين أو العراق، فإنه يختم عليك بالشمع الأحمر. فهؤلاء لا يتحملون المخالفة في الرأي، بل إنهم ينساقون وراء ظنونهم وتصوراتهم أحياناً، ويذهبون إلى حد بعيد، وينسون حتى متبنياتهم وما أسسوا له من نظريات.
ينقل الدكتور محمود أبو رية (أحد علماء الأزهر) أنه عندما ألف كتابه الشهير (أضواء على السنة المحمدية) قابله محب الدين الخطيب ـ وهو وهابي متعصب ـ غاضباً، وهو يقول: كيف تطعن في الصحابة وقد قال فيهم رسول الله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم؟ يقول أبو رية: فقلت له: هذا حديث ضعيف، فكاد يتميّز من الغيظ، فقال لي: ومن ضعّفه؟ قلت له: أنت! فلم يحر جواباً.
لماذا هذه الظاهرة؟وقد تطرح عزيزي القارئ سؤالاً بالشكل التالي: لماذا تميز هؤلاء دون غيرهم بهذه الصفة؟ ولماذا تجد في الكثير من أبناء السنة الآخرين لين العريكة ودماثة الطبع وتقبل الحوار والتحمل ولا تجدها في الوهابيين؟ والجواب على هذا السؤال قد يأخذ الكثير من الوقت، ويحتاج إلى الكثير من الدراسة، بسبب تعدد العوامل التي أدت إلى ذلك، فمنها العوامل سياسية أو التاريخية أو البيئية أو غيرها، ولكنني أحاول أن أبرز العامل الأهم، وهو (الخوف من الآخر).
فالوهابية من حيث البنية الفكرية تعتبر أضعف الاتجاهات على الإطلاق، لذا فإنها تتجنب فتح النوافذ عليها كي لا تصيبها حجارة النقد والتحقيق في المقتل، بل تسارع إلى قتل الآخر ممن تتوقع أنه سيفتح عليها أبواباً لا تستطيع غلقها، وهذا ما يفسر لنا اختلاف درجة العدواة عندهم من موقع إلى آخر، فإذا رأيت ارتفاعاً في درجة العداوة تجاه فرقة ما فاعلم أنها أخطر عليهم فكرياً وثقافياً من غيرها، فعداوتهم لليهود مثلاً (إن كانت لديهم عداوة) أقل بكثير من عداوتهم للشيعة، لأن الخطر الفكري والثقافي الآتي من هؤلاء أعظم وأخطر، فتجدهم عند تصنيف مراتب الأعداء يجعلون الشيعة في رأس القائمة، ويقفون مع اليهود للنيل منهم. فمن الأمثلة على الخلل المنهجي والمعرفي عندهم، ظاهرة التاقض، وإليك جانباً منها:
1 ـ أنهم يغالون إلى حد بعيد في الكثير من رموزهم، ويتهمون غيرهم بالغلو:فيقولون في أحمد بن حنبل: إن الله تعالى يزوره في قبره كل عام. وأن قبره أحد أربعة قبور تدفع عن بغداد جميع البلايا، وأن التبرك بقبره مشروع، وأن الله ينظر سبعين ألف نظرة في تربة أحمد بن حنبل، ويغفر لمن يزوره، وأن من كانت به ضائقة وزار قبر أحمد يوم الأربعاء ودعا رزقه الله السعة، وأن من دفن في المقبرة التي دفن فيها أحمد بن حنبل مغفور له... إلخ.
لكنهم في المقابل ينعتون غيرهم بـ ( القبوريين ) ويحرمون عليهم زيارة القبور، والتبرك بها، بل ويفتون بهدمها وتسويتها بالأرض، ويستدلون على ذلك بأدلة يزعمون أنها من (السنة). بل يمنعون حجاج بيت الله الحرام من التبرك بقبر النبي (ص) وهو أفضل من على وجه الأرض من الأولين والآخرين!! اللهم إلا إذا كان أحمد بن حنبل أفضل منه في نظرهم!
2 ـ في موضوع الصحابة تبنوا قاعدة (الإمساك عما شجر بين الصحابة) وأن من سبهم فهو كافر يجب قتله، لكنهم يجدون في كتبهم الكثير ممن يقدح في علي (ع) ويسبه ويسب أهل البيت فيغضون الطرف عنه، وكان بنو أمية يسبون علياً على المنابر، لكنهم أفلتوا من رقابة (قاعدة الإمساك).
يجدون في التاريخ من قتل الصحابة، فيتوقفون حتى في سبه، بل يحرمون القدح به، من أمثال يزيد بن معاوية. ويجدون (شيخ الإسلام) ابن تيمية، الذي سجن وحوكم في عصره بتهمة النصب، والبربهاري (وهو من أبرز علماء الحنابلة في أواخر القرن الثالث، وأوائل القرن الرابع) والذهبي وغيرهم من النواصب، فتتعطل هنا (قاعدة الإمساك) ولا تسري في النواصب كما تسري في غيرهم. ثم إذا كان السب موجباً للتكفير، فما حكم القتل؟ لقد قتل يزيد بن معاوية في يوم واحد سبعمائة صحابي في المدينة، فلم لا يكون كافراً؟
3 ـ يقيمون الدنيا ولا يقعدونها في ادعاء محاربة البدعة، لكنهم يدافعون عما ابتدعه معاوية وأمثاله، وسمي بالأوّليات، فقد ذكروا مثلاً أنه أول من خطب جالساً، وأول من حُملت إليه الرؤوس (وكان أول رأس حمل في الإسلام رأس الصحابي عمرو بن الحَمِق الخزاعي، رضوان الله عليه، الذي قتله معاوية) وهذه بدع صارخة. بل إنهم استخدموا الكثير من الاصطلاحات (البدعية) التي لم ترد في الكتاب أو السنة أو سيرة الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين، ومن أمثلة ذلك ألفاظ: عقيدة، سنة، شيخ الإسلام، وهكذا.
4 ـ ينهون عن التكفير، وأن تكفير المسلم من الكبائر، التزاماً بما ورد من النصوص في مسلم والبخاري، ولو أنك ـ عزيزي القارئ ـ سألت أحدهم عن تكفير المسلم لتبرأ منه، وقال لك بكل وضوح: لا يجوز تكفير المسلم، لكنهم يكفّرون الأمة كلها دون استثناء (إلا من هو مثلهم طبعاً). فقد كفروا الصوفية والمعتزلة والأشاعرة والشيعة والفلاسفة، وكل فرق المسلمين، وادعوا أنهم هم وحدهم (الفرقة الناجية).
هذا في الإجمال، أما في التفصيل فحدث ولا حرج.لقد قال أسلافهم في أبي حنيفة (كما يذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة): (إنه كافر زنديق ... وأن الخمارين خير من أتباع أبي حنيفة ... وأنه وأصحابه شر الطوائف جميعاً ... وأنه استتيب من الكفر مرتين أو ثلاثاً ... وأن كثيراً من العلماء على جواز لعن أبي حنيفة ... وهلم جرا). ونقلوا عن الإمام أحمد أنه قال: الحسين الكرابيسي (وهو شافعي) عندنا كافر.ويقول البربهاري عن كتابه (شرح السنة): (من استحل شيئاً خلاف ما في هذا الكتاب فإنه ليس يدين الله بدين، وقد رده كله... كما لو أن عبداً آمن بجميع ما قال الله إلا أنه شك في حرف، فقد رد جميع ما قال الله، وهو كافر).وبهذا يكون كتاب شرح السنة للبربهاري من مستلزمات (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فليس بمسلم من خالف ولو حرفاً واحداً من كتابه المذكور.
وبناء على ذلك فإن من دخل الإسلام من الشرقيين أو الغربيين لا بد أن يعطى كتاب شرح السنة للبربهاري أولاً، وعليه أن يؤدي امتحاناً تفصيلياً للتأكد مما إذا كان قد أتقنه أو لا، ثم يقبل إسلامه. ولو استرسلنا في ذكر التناقضات الصارخة لطال بنا المقام، لكننا أوردنا بعض الأمثلة ليطلع القارئ الكريم على أن هؤلاء أشد ما يخافون من البحث العلمي بأي موضوع كان، لأن في ذلك فضيحتهم ونسف الأسس التي بنوا عليها آراءهم ونظرياتهم.
ومن هنا فإنهم منعوا منعاً باتاً تداول الكتب التي تبحث بحثاً علمياً، وحاربوا الكتّاب الذين فتحوا باب الحوار والمناقشة من أمثال د. حسن السقاف والشيخ محمود أبو رية والدكتور صالح الورداني والدكتور مصطفى بوهندي والأستاذ المحامي أحمد حسين يعقوب والدكتور التيجاني وغيرهم، لأن الباب إذا ما فُتح أمام هؤلاء فسوف لن يبقى للوهابية عين ولا أثر.
ومن هنا أيضاً ـ عزيزي القارئ الكريم ـ تدرك السر في خلو مكتباتهم من كتب الشيعة وغير الشيعة، مما يبحث في موضوعات أقفلوا عليها الباب منذ قديم الزمان، فيما تعج مكتبات الشيعة بكتب المسلمين جميعاً، وحتى غير المسلمين، فجواب ذلك فيما ذكرناه آنفاً من أنهم يخشون على أنفسهم من الفضيحة، فيما يسعى غيرهم إلى فتح الآفاق المعرفية أمام الأجيال لتكون أكثر حصانة وعمقاً فكرياً.
https://telegram.me/buratha
